Beirut weather 17.41 ° C
تاريخ النشر December 24, 2017
A A A
نظام فصل عنصري في إسرائيل
الكاتب: ريتشارد فولك

يصوَّر النزاع الإسرائيلي – الفلسطيني على أنه نزاع على الأرض، وأنه ينتهي مع انتهاء الاحتلال. ولكن النزاع هذا هو أقرب إلى نزاع بين شعبين مما هو نزاع على الأرض. فطالما بقيت المساواة غائبة بين الشعبين هذين، تعذر إرساء السلام. لذا، الكلام عن إنهاء الأبرتايد (نظام الفصل العنصري) في محله. وسبق أن توسل مسؤولون سياسيون في إسرائيل بنعت الـ «أبرتايد». فأول رئيس وزراء إسرائيلي، ديفيد بن غوريون، حذر، في 1949، من تحول إسرائيل إلى نظام أبرتايد إذا لم تحل مشكلة فلسطين. وعلى رغم استخدام إيهود أولمرت وإيهود باراك -وكلاهما شغل منصب رئيس الوزراء في إسرائيل- الوصف هذا، يُندد بالأجنبي الذي يتوسل به، ويقال إن خطابه تحريضي.

والأبرتايد في تعريفه القانوني هو هيمنة عرق على آخر، من أجل فرض بنية سيطرة من طريق أعمال غير إنسانية. وفي البدء، أرادت الحركة الصهيونية إنشاء موئل يهودي، ولكن دولة إسرائيل أُرسيت على غياب في المساواة بين اليهود والفلسطينيين. وكان التحدي الصهيوني أكبر من تحديات نظام الأبرتايد في أفريقيا الجنوبية: فهو أراد إنشاء دولة يهودية وديموقراطية في آن. وهذا يقتضي إرساء توازن سكاني. ومنذ 1947، أي منذ طرد 750 ألف فلسطيني ورفض حق عودة المتحدرين منهم، ترمي السياسة الإسرائيلية إلى الحؤول دون غالبية فلسطينية، وهذه مصدر خطر و «قنبلة سكانية». ومثل هذا الشاغل لم يكن شاغل النظام في أفريقيا الجنوبية الذي لم يطمح إلى الديموقراطية. ولكن إسرائيل تنتهج سياسة تذرير الفلسطينيين وتقسيمهم من طريق رفض حق العودة، والسيطرة العسكرية على الأراضي المحتلة بعد 1967 وغيرها من تكتيكات تستهدف الأقلية الفلسطينية في إسرائيل. وفي مقدور اليهود من أصقاع المعمورة كلها القدوم إلى إسرائيل، في وقت إن الأبواب موصدة في وجه فلسطينيي الخارج. ونظام الأبرتايد في إسرائيل هو نظام سيطرة: احتلال منذ خمسين عاماً، وعنف مفرط، وتكتيكات إدارية وقصاص جماعي لترسيخ الدولة اليهودية.

وازدرت إسرائيل تقريراً نشرته منظمة «إسكوا» الأممية في آذار 2017، حمل عنوان «الأساليب الإسرائيلية تجاه الشعب الفلسطيني ومسألة الأبرتايد (الفصل العنصري)». وشجبت أميركا والأمانة العامة الأممية التقرير هذا، وطلب أمين عام الأمم المتحدة سحبه من موقع «إسكوا»، واستقالت، الأمينة التنفيذية في المنظمة هذه، ريما خلف، احتجاجاً. ورأت حكومات كثيرة أن المبالغة شابت المقارنة بين نظام الأبرتايد في جنوب أفريقيا وإسرائيل. ولكن إذا نظر المرء إلى المسألة من وجهة نظر الضحية، لا مبالغة في وصف النظام الإسرائيلي بـ «الأبرتايد». وعشتُ معاناة الضحايا في زياراتي المخيمات الفلسطينية، طوال ستة أعوام حين شغلتُ منصب المقرر العام في الأمم المتحدة. وخلصت إلى أن صبر هؤلاء الناس استثنائي، فهم يقبلون المساومة. ولكن في إسرائيل، يتعاظم الشعور بأنهم في غنى عن المساومة. ويريد الإسرائيليون أن يتخلى الفلسطينيون عن المطالبة بدولة مقابل حيازتهم حقوقاً اقتصادية والسلام. وما يسعى اليه بنيامين نتانياهو هو الحفاظ على أمر واقع ملتبس: سلام نسبي وتوسيع المستوطنات. ولكن على إسرائيل الاختيار إما أن تكون يهودية وإما أن تكون ديموقراطية. والمؤشرات كلها تشير إلى أنها اختارت اليهودية، وليس الديموقراطية. ويتجه نتانياهو نحو إرساء ديموقراطية غير ليبرالية.

ولم تدحض حجج فعلية خلاصات تقرير «الإسكوا»، واكتُفي بالقول إن المقارنة بين الأبرتايد في جنوب أفريقيا وإسرائيل تسد الطريق أمام النقاش، وتحول دونه. ولكن، ما السبيل إلى عيش الشعبين هذين في سلام؟ يجب إنهاء نظام اللامساواة وردم هوة اللامساواة وتذليل بنية الهيمنة. والتجربة الجنوب أفريقية يُعتد بها نموذجاً. فالقيادة البيضاء أعادت حساباتها واحتسبت مصالحها، فأطلقت سراح نيلسون منديلا وأقرت دستوراً ديموقراطياً وأنهت الأبرتايد. ولكن إسرائيل تريد إرساء نظام هيمنة «ناعمة»، عوض السماح بإنشاء دولة فلسطينية، في وقت إن الخروج من نظام الهيمنة ترتجى منه فائدة. والجهة المهيمنة مدعوة إلى الإقرار بأن اللامساواة هذه غير مشروعة.

ونواة الخطاب الإسرائيلي هي الإيحاء بأن قوة إسرائيل والتطورات الإقليمية تسيران في منحى يجعل الكفاح الفلسطيني قضية خاسرة. وهذا كلام يلقى قبول الحكومات. ولكن هذه تغفل أن نفوذ المجتمعات المدنية يتعاظم وأن كفته ترجح على كفة الدول. وإسرائيل في مرمى الناشطين المدنيين. وليس الكفاح المسلح ما يقلقها، بل حملة «المقاطعة، وسحب الاستثمارات، والعقوبات» (BDS). لذا، تسعى إلى إسقاط مشروعية الحملة هذه. واليوم، تدور رحى حرب على المشروعية ومدارها على من يفوز بمعركة الرأي العام ويفلح في استمالته. وفي المنحى هذا، الفلسطينيون يكسبون الرأي العام. فحركات اقتلاع الاستعمار كلها فازت على الجيوش. وأميركا، شأن إسرائيل، تخفق في مقاربة الأمور مقاربة غير عسكرية. ولكن الضعفاء هم من فازوا بالنزاعات العسكرية كلها في الخمسين سنة الماضية.

وأعتقد أن رغبة حركة «حماس» في وقف إطلاق نار طويل الأمد مع إسرائيل، جدية. وبعد انتخابات 2006، تفاوضت مع واشنطن على اتفاقات سلام. وعلى رغم أنها متمسكة بفلسطين موحدة، إلا أنها تخففت من الخطاب المعادي للسامية. ولكن إسرائيل ترى أن بعض وجوه الحركة هذه مصدر خطر وجودي عليها، ولا ترغب في نزعها عن قائمة «الإرهاب». وتساهم الهجمات الإرهابية في إضعاف يد الفلسطينيين، وتغلب كفة قوة إسرائيل، في وقت إن نقطة ضعفها أخلاقية وقانونية في النزاع. وأخطأ الفلسطينيون حين لم يسلكوا طريق النضال المدني بعد اتفاقات أوسلو لتقويض مشروعية إسرائيل. والأمم المتحدة بالغة الأهمية في حرب المشروعية بين الفلسطينيين والإسرائيليين. فهي الفيصل في التمييز بين الخير والشر، والمشروع وغير المشروع. ولكن الأمم المتحدة بالغة الضعف ونفوذها لا يعتد به في غياب إجماع جغرافي- سياسي.

ودورها في تذليل النزاع الإسرائيلي – الفلسطيني ثانوي، شأن دور أوروبا. والتوازنات الاستراتيجية حملت الفلسطينيين على قبول أداء الأميركيين دور الوسيط، في وقت إنهم وسيط غير عادل. فهم أقرب حلفاء الإسرائيليين. والفلسطينيون ساذجون: فهم ارتضوا عملية أوسلو، على رغم أنها لم تشمل حقهم في تقرير المصير. ولا يرغب بنيامين نتانياهو في حل ديبلوماسي. ويجب إقناع الإسرائيليين بأن السلام ممكن، ووجوب السعي إلى المساواة والتراجع عن بنى تفاقم هوة التباين الاجتماعي وترسي دولة يهودية. فالحاجة ماسة إلى ترك فكرة موئل يهودي.
*
* باحث في القانون والعلاقات الدولية، شغل في الأمم المتحدة منصب مقرر حقوق الإنسان الفلسطيني (2008-2014)، عن «تورونتو ستار» الكندية – إعداد منال نحاس