Beirut weather 21.41 ° C
تاريخ النشر February 7, 2017
A A A
نحو موت “جيد” للمريض العربي!
الكاتب: نقلاً عن روسيا اليوم

يبدو العنوان صادما .. فالعقل العربي يبحث دائما عن رعاية “جيدة” أو شفاء “عاجل” للمريض العربي . الجميع يتحاشى التعامل مع الموت!

الموت في عقلنا الباطن عدو نريد دوما القضاء عليه وهزيمته، بينما هو في ضميرنا الديني والشعبي على العكس: نهاية حتمية ومصير لا مفر منه! فمن أين أتى يا ترى هذا التناقض؟!
مصطلح “الموت الجيد” good death ليس من اختراع كاتب هذا المقال. بل هو مبدأ أصبح راسخا في الأوساط الطبية الأكاديمية، ووجد طريقه بنجاح إلى عالم التطبيق الواقعي في العقود الماضية. فهل يوجد بالفعل موت جيد وآخر سيئ؟ حتى لا أرهق قارئ المقال بالمزيد من الألفاظ المتخصصة سأذهب سريعا الى أرض الواقع:

• دكتور! طمئني أرجوك. كيف الحالة؟
• للأسف والدك في مرحلة حرجة جدا. ضغط الدم منخفض وفي حالة غيبوبة.
• ما السبب؟
• أمراضه المزمنة ومن ضمنها الشيخوخة وفشل بعض الأعضاء.
• والحل؟
• والدك محتاج لسرير في العناية المركزة فورا!

عناية مركزة؟
هل أصبحت العناية المركزة دائما وأبدا المكان الطبيعي للوفاة الطبيعية والتعامل مع الجنرال “موت”؟

نذهب سريعا إلى غرفة الأطباء:
• ماذا فعلت مع أهل المريض؟
• قلت لهم إنه يحتاج إلى رعاية مركزة.
• لكن الرجل حالته ميؤوس منها تماما.
• هذه ليست مسؤوليتي. لو لم أفعل ذلك وفاضت روحه لاتهموني بالإهمال. لقد رميت الكرة في ملعب العائلة.

الطبيب هنا يتنصل من مسؤوليته، ولا أستطيع لومه كل اللوم. فهو لا يريد أن تتم إحالته إلى التحقيق بواسطة نفس المؤسسات والهيئات الطبية، التي تتنصل من التصدي لنفس الموضوع الشائك!

ترى ماذا الذي يحدث في غرفة الانتظار؟
• لا يوجد مكان رعاية شاغر في الحكومي. لا بد من توفير سرير في الخاص.
• لكن لا نستطيع تحمل تكاليف الخاص.
• لا يهم. سنبيع كل شيء. سنستدين من أهل الخير. لا يمكن أن نتخلي عن أبينا.
• لكن أبينا حالته تتدهور باستمرار، هو أصلا لا يعرف أين هو، أو من حوله منذ عدة سنوات.
• لن نتركه يموت من دون محاولة، والباقي نتركه لله. لا يمكن أن يقول الناس أننا أهملنا أبانا.

الكرة الملقاة في ملعب العائلة أدت إلى:
صراع نفسي وإهدار مالي وخوف من عار اجتماعي أو عقدة ذنب. إلقاء الكرات يتحول تدريجيا إلى شيء سخيف.

ننتقل الآن إلى قسم الرعاية:
• حالته حرجة. هو حاليا على جهاز التنفس الصناعي عن طريق أنبوبة في حنجرته وتوقفت الكلية عن العمل، وقد يحتاج إلى غسيل كلوي.
• وهل سيؤدي الغسيل إلى تحسن الحالة؟
• لا أعتقد. لكن أنتم قلتم أنكم تريدون فعل كل شيء قد يعطي أملا. بالمناسبة هو أيضا ينزف من معدته، وقد يحتاج إلى منظار.
• افعلوا المطلوب مهما كانت التكاليف.
• ماذا إذا توقف قلبه؟ هل تريدون إنعاش القلب بالصدمات الكهربية؟
• طبعا نريد.
• نقل دم؟
• طبعا نريد.

بهذه الطريقة يتحول الطبيب (أعتذر عن التشبيه) إلى ما يشبه نادل في مطعم، يعرض الوصفات ويتلقى الاختيارات، وما يهمه في النهاية موافقة “الزبون” على الفواتير. الطبيب مرة أخري يلجأ هنا إلى رمي الكرات الساخنة. لكن يا ترى هل يتماشى ذلك السلوك الذي يبدو ظاهريا كاستجابة واحترام لإرادة المريض أو من ينوب عنه مع أخلاقيات المهن الطبية؟

ببساطة تقوم أخلاقيات الطب الحديثة علي أربع مبادئ هامة يعرفها أي طبيب:

1. حرية المريض المحتفظ بالأهلية العقلية أو من ينوب عنه عند فقد هذه الأهلية في تحديد المصير.
2. فعل المفيد.
3. عدم فعل الضار.
4. توزيع الإمكانات الطبية المتاحة بالعدالة بين متلقي الخدمة لتحقيق أكبر عائد صحي علي المجتمع.

النقطة الأهم ومفتاح الحل، الذي توصل إليه المجتمع الطبي الغربي، هو أن مبدأ حق تحديد المصير وحرية الموافقة أو الرفض لأي إجراء طبي ينطبق فقط على ما هو معروض أصلا من الطبيب المعالج.

بمعنى آخر ليس من حق المريض أن يحدد خطة علاجه بطلب أشياء من الطبيب لا يعتقد الطبيب بجدواها، وكما لا يستطيع مريض ما مثلا إرغام جراح القلب على إجراء عملية تغيير صِمَام تقول الأدلة الطبية بأنه لا يجب تغييره، أيضا لا يستطيع المريض أو أهل المريض أن يرغموا طبيب الطوارئ أو الرعاية على إجراء خطوات “إنعاشية” لا يوجد من الأبحاث الطبية ما يثبت نجاعتها في تحقيق “المفيد” أو دفع “الضار”.

علماً بأنه إذا مالم يكن هناك نفع حقيقي، فالضار دائما موجود في صورة آلام للمريض ناتجة عن تركيب للأجهزة أو فقد لخصوصيته وكرامته علي أسرة الرعاية و مايتبعه من قلق وضغوط نفسية على أهله، أو حتي في صورة هدر مالي وضرر في هيكل الخدمات، الذي كان من العدالة الحقيقية توفيره لمريض آخر له فرص أكبر في التحسن.

للوهلة الأولى قد يبدو في ذلك تغول لسلطة الطبيب، بحيث يستطيع إملاء قراره بمعزل عن استشارة المريض أو أهله، وهذا بالتأكيد ليس صحيحا. فبالرغم من حدوث بعض مظاهر اختلاف الإرادات أحيانا فإن الأبحاث أظهرت ان التواصل الفعّال بين الأطراف لا بديل عنه وأن إعطاء أهل المرضى المعلومات الدقيقة والمبسطة وبإشراك المزيد من كبار الأطباء، يؤدي في الغالبية العظمى من الحالات للوصول إلي تسوية للخلاف وتغليب صوت العقل والحكمة.

نقطة أساسية أخرى:
من المهم جدا للمريض وذويه أن يتلقوا تأكيدا على أن التوقف عن الإجراءات الإنعاشية لا يعني أن يترك المريض بلا أي رعاية طبية. وهنا تأتي وظيفة “العلاج التلطيفي للحالات المتأخرة” palliative care، وهو المجال الذي يتوسع حاليا بطريقة كبيرة في العالم، والذي يعني بالتعامل مع المضاعفات وتخفيف الأعراض المصاحبة لتدهور الأمراض الميؤوس في علاجها، وضمان الحفاظ على رفاهية وكرامة ونفسية المريض في رحلته الأخيرة.

الوصول لاتفاق مشترك على علاج تلطيفي لا يكون دائما بهذه السهولة، خاصة تحت ضغط تدهور المريض السريع. لذلك اتجهت الأنظمة الطبية العالمية مؤخرا لتشجيع بل وإلزام الأطباء المعالجين للمسنين ومرضى الأمراض المزمنة والخطيرة بالحديث معهم مبكرا عن المسار المتوقع لتدهور المرض. ورسم ما يشبه الوصية الطبية، حتى إذا ما تفاقمت الحالات لمستويات معينة، يتم توجيههم إلى طريقة العلاج الملائمة، والتي قد تصل في بعض الأحيان للعلاج التلطيفي في المنزل تحت إشراف طبي لتحقيق أفضل درجات الكرامة و الخصوصية.
يجدر الإشارة هنا إلى أن العلاج التلطيفي يختلف تماما عن “القتل الرحيم” المُحرم دوليا، والذي هو باختصار إعطاء المرضى الميؤوس من شفائهم جرعات تؤدي إلى وفاتهم خلال دقائق.

في النهاية، الموضوع غني بالعديد من التحديات الاجتماعية والقانونية والتنظيمية والتعليمية والتطبيقية، وهذه التحديات لا يجب أن تستمر عُذرا للتقاعس عن القيام بالدور الصحيح تجاه المريض وذويه والمجتمع ككل.

د. أيمن العطار
أخصائي مصري في طب رعاية الحالات الحرجة