Beirut weather 19.65 ° C
تاريخ النشر August 18, 2021
A A A
مُسْتَقْبَل التربيةِ في مأزق… فَهَلْ مِن حَلّ؟
الكاتب: الدكتور نبيل قسطه - موقع المرده

مِنَ المُتَعارَف عليهِ أنًّ عالَمَ التربيةِ بصورة عامَة يَتَكَوَّنُ من ثلاثةِ عناصر ركنيَّةٍ أساسيَّة وهي: المنهَج، المعلّم، والتجهيزات. وعلى مستوى الدولةِ فإِنَّ عالَمَ التربية يشملُ كلّ ما يمكن أن توفِّرَهُ هذه الدّولة من معطياتٍ ذاتِ صلة بالتربية.
أمّا بالنسبةِ لعالَمِ المدرسةِ التربويّ فهو يضمّ: المعلّم، التلميذ، وليّ الأمر والتعليم.
عناصر كثيرة لَم يَعُدْ بَيْنَها ولو عنصرٌ واحِدٌ سليمٌ، وباتَتْ جميعُها في حالٍ يُرثَى لها، بَل مدعاة قلقٍ شديد يؤشّر إلى المأزقِ الكبيرِ وَيُنْذِرُ بالخطر…
فها هي مناهجُنا التعليميَّة تستعدّ للاحتفال بيوبيلها الفِضّيّ، وقد مرَّ عليها ما يقربُ من رُبْعٍ قرنٍ من دون أن تشهدَ أيّ تطوير نوعيّ وعصريّ، باستثناء بعض اللمساتِ التجميليَّة السطحيَّة بغية إِخفاءِ ترهُّلِها والتخفيف من ثِقلِ حَشوها، علمًا أنَّ مشاكلها ونقاط ضعفِها لا تَحصَى، ولا يتَّسِعُ المجال لذكرها والوقوف عندها، وأبرزُها افتقارُها إلى ما يُنَمّي المهارات وتحديدا الحياتية منها والتفكيرية. أمّا المعلّم/ـة في لبنانَ، فقد تخطّى حالةَ الإحباط ليدخُل في حالٍ من اليأسِ المتفاقِم، كيفَ لا، ونَحوٌ من ثمانين في المئة من معلّماتِ لبنانَ ومعلّميه تراوِح أُجورهم في حدودِ المليوني ليرَة، فيما لَم تَعُد أجورُ العشرين في المئة منهم تتعدَّى المئتي دولار، بينما كانت حتى أمسٍ قريب تُعادِلُ نحوًا من ثلاثةِ آلاف دولار أميركيّ… فماذا يُمكن أن تطلبَ إداراتُ المدارس ِ غدًا من معلّمين منهكين ماليًّا، علمًا أنّهُم أعطوا وضَحّوا لِسنواتٍ طويلة أكثر بكثير ممّا كانوا يتقاضونَ، لَكِنَّهُم قَنِعوا بما قُسِمَ لهم مُقتَنِعينَ بأنَّ التعليم رسالة أكثر منه وظيفة وبأنَّ المعلّم شمعة تذوب لتضيء “العقولَ والدروبَ”… وها هم قد ذابوا فِعْلًا، لا قولًا ولا مجازًا، فما العمل؟
وعلى صعيد الركنِ الثالثِ أَي التجهيزات، فإن العدد الأكبر من المدارِس لَم تُتح لَهُ الفرصَةُ لاستكمالِ تجهيزاتِه: من مختبر للعلوم الطبيعيَّة، ومختبر للفيزياء وآخر للكيمياء ورابع للرياضيّات وخامس للتكنولوجيا، إلى المكتبة العامّة الورقيّة وتلك الالكترونيّة وما يُعرف بال BCD أو الCDI، وصولًا إلى كلّ ما يُسَمّى مراكز تعلُّم Learning Centers، وتجهيز هذه المرافق يحتاج قطعا وموادّ مستوردة بمعظمِها وبالعملة الصّعبةِ، ما يعني أنَّ المدارس المُشار إليها آنِفًا باتَت تُعاني جمودًا ولَم يَعُدْ في وسعِها إنجاز ما بدأته…
إِذًا، هذه الأركان الثلاثة هي في مأزِق بفعل حاجتها الكبيرة إلى المال عصبِ الحياة فيها والرابط الأساس بل الوحيد في ما بينها، وَمن دونِه لن تستطيعَ تجديدَ المناهِج بِكَوْنِ هذه الورشة تحتاجُ إلى موارد بشريَّة عديدة ومتخصِّصَة، يتوزَّعونَ على لجان تعمَل على مدى آلاف السّاعات لِتَغْطِيَة شتّى الموادّ التعليميَّة والمستوياتِ كافَّة، تمامًا كما حَصَلَ بينَ العامين 1994 و1997 من خلال المركز التربويّ للبحوث والإنماء وقد توافرَتْ له آنذاكُ ميزانيّاتٌ عالية جدًّا.
وبالتالي، وبموازاة تحديث المناهج، فإنَّ عمليَّة تطوير قدرات الموارد البشريّة تفرض نفسها وتدريب هؤلاء سيحتاجُ مبالِغ طائلة تُقَدَّر بعشرات ملايين الدولارات وهي غيرُ متوافِرَة حاليًّا، فكيفَ للمعلّمين أَنْ يُحْدِثوا فرقًا وأَنْ يُقبِلوا على التدرُّب بحماسَةٍ وطواعيَّةٍ ومعظمهم قد لامسَ خطّ الفقر؟!
إلى ذلك، فإنَّ التجهيزات التي أشَرْنا إليها سابِقًا تحتاجُ مبالِغ لا توفّرُها الأقساط المدرسيَّة، أقلّهُ في المدى المنظور، يُضافُ إليها عجزُ العديد مِنَ المدارس عن تأمين ما تحتاجَهُ في التعليم عن بُعْد وفي الطرائق الحديثة، من رخص مايكروسوفت وغيرها من جديد برامج المعلوماتيَّة المطلوبة، فكيفَ لهذه المدارس أن تستمرّ على هذه الحال؟
يَتَّضِحُ لنا ممّا تقدَّم أنَّ بينَ هذهِ الأركانِ الثلاثةِ قاسمًا مُشتركًا هو المال غيرُ الموجود… وإذا سَلَّمنا بأنَّ مساعدات ماليَّة ستأتينا من غير بلدٍ وصندوق ومصدر، إلّا أنَّ التربية، على ما يبدو، لن تحظى إلّا بالجزء البسيط منها، باعتبار أنَّ أولويّات حياتيّة كثير ومُلِحَّة ستتقدَّم على الحاجات التربويّة، كالطاقة من كهرباء ووقود وسواها، وكلّها برسم الانقطاع، وكذلك التعثّر المتفاقِم في قطاعي الاتّصالات والمواصلات، ناهيكَ عن استفحال مشاكل الدواء والاستشفاء، من دون إغفال مشاريع مُستعجلة عديدة أبرَزُها إعادة بناءِ مرفأ بيروت، وكلُّها بحاجة إلى تمويل كبير وسيُخَصّص لها القِسْمُ الأكبر من هذه المساعدات الماليَّة…
بموازاة ما سَبَقَ ذِكْرُه وَمِن قلبِ هذا المأزق العميق، يلوحُ بصيصا أمل: الأوّل، على محدوديّته، يُمكن أن يُدرَج في إطار المايكرومانجمنتMicro-Management، ويتظهّر في أن يقوم نحو من عشرة في المئة من المدارس الخاصّةبإحياء مناهجها وتطويرها انطلاقًا من المناهج الرسميَّة المُعْتَمَدة، وبجهود من أُسرِها التربويَّة-التعليميَّة، بحيثُ تبني تعليمها وطرائقه على المهارات، مُتَّكِلَة في عملِها على بعضِ المساعدات من بعضِ الواهبين، والتي من شأنِها الإسهامُ أيضًا في تعزيز بعض التجهيزات المطلوبة لمواكبة هذا التطوير. أمّا البصيصُ الثاني فيمكن أن يكون على مستوى لماكرومانجمنتMacro-Management بحيثُ يطالُ كلّ الشرائح في عالمَي التربية والتعليم في لبنان، وهو ينطوي على دعوة الحكومة اللبنانيّة إلى التفكير الجدّي في أن يكونَ لبنان تحت سلطةِ إشراف تربويَّةEducational Overseer لكي لا نقول تحت سلطة وصاية تربويّة فتُثار حساسيَّة البعض، ونحنُ بغنًى عن هذا…
لِمَ لا؟ وكما هُو المركز التربويّ للبحوث والإنماء تحتَ وصاية وزارة التربية، وكما هي مؤسّسة كهرباء لبنان تحت وصاية وزارة الطاقة، فلماذا لا يكون لمنظّمة اليونيسكو سلطة إشراف لا وصاية على التربية في لبنان؟ وأغلبُ الظّنّ أنَّ هذا النوع من العلاقة لا يمسُّ السيادة اللبنانيَّة، فمنظّمة اليونيسكو لا تُعنى بغير التربية والثقافة، وهي تُراعي أحوال الدول السياسيَّة والاجتماعيَّة، وهي أصلاً باتت منخرطة الآن تخطيطاً وتمويلاً في مشروع الخطّة الخمسيّة التي أطلقتها وزارة التربية والتعليم العالي في الثالث من الشهر الحالي في بيروت بصيغتها المبدئيّة ووزّعتها على الجهات المعنيّة لإبداء الرأي قبل صدورها كوثيقة نهائيّة برسم التطبيق والتنفيذ،علما انّ تجارب عديدة سابقة مع وزارة التربية قد باءت بالفشل،مرّة بفعل الحوكمة غير الرشيدة،ومرّة جرّاء سوء المتابعة،ومرّة ثالثة بداعي التسييس والمحاصصة وشدّ الحبال،الى ما هنالك من عمليّات تشويه الخطط وإهمال الوعود ثمّ تناسيها فدفنها مكفّنة باللاثقة وبالأداء العشوائيّ لوزارة التربية والحكومة اللبنانيّة،ونأمل الاّ يتكرّر السيناريو ايّاه.
لا شكَّ في أنَّ هذا الطرح يَفترض وجود سلطة لبنانيَّة فريدة واعية واستثنائيَّة، تُطالِبُ الأمم المتّحدة بأن يكون لليونيسكو سلطة إشراف كامل على التربية اللبنانيَّة فتسعى بقوّة إلى تمويل الأركان الثلاثة: ورشة تطوير المناهج، ورشة تدريب المعلّمين، على أن يشترك معها في ورشة التجهيزات صندوق النقد الدوليّ والبنك الدولي وال USAID وسواها، فتقوم هذه الجهات الدوليَّة بالإشرافِ على المشتريات لئِلّا يتكرّر ما حصَلَ في صفقة ال Laptops التي كثُرَت حولها الشبهات ولم تنجلِ حقيقتها حتّى اللحظة.
بناءً على ما تقدَّم، وفي حال لم يوضع لبنان تحتَ سلطة إشراف تربويّة دوليّة كسلطة منظّمة اليونسكو، فنحنُ ذاهبونَ إلى انهيار تربويّ كامل وشامل في مسار تراجعيّ يُوازي خمسين سنة من التقهقر قياسًا على سرعة التقدُّم في غالبيّة البلدان في العالمَين العربيّ والغربيّ.
وليسَ خافيًا على أحد أنَّ تأثير سائر الأزمات غير التربويّة قد يسقط بعد عامين أو ثلاثة، بينما الخروج من الأزمة التربويّة وتداعياتِها قد يستغرق سنواتٍ عديدة، وبالتالي، فإنَّ الأزمات التربويّة إذا تعمّقت “كفيلة بضرب أجيال وتشويه وجه البلد”.
وكما لم يتَغَيَّرْ وَجْهُ لبنان في السّابق إلّا عن طريق التربية والتعليم ليَشرق مع بزوغ فجر عصر النهضة ويظلّ يتمايز ويتألّق حتّى أمسٍ قريب، كذلك سيتشوَّه وَجْهُ لبنان غدًا، وبسبب التربية إذا لَم نُسارِعْ إلى إخراجِها من مأزقِها وكَسرِ طوقِ الخطر الذي يُحيط بها ويهدّدها، وإذا لَم نَسْعَ بقوَّة إلى إبعاد شبح الانهيار عنها قَبْلَ فواتِ الأوان.نعم،إنّها مناسبة لنؤكّد على مضمون الدراسة التي أصدرها مرصد الأزمة في الجامعة الأميركيّة في بيروت أمس تحت عنوان عدم قدرة مليون طالب على العودة الى مقاعد الدراسة.وبالتالي، نحن نشدّعلى يد نقيب المعلّمين في المدارس الخاصّة رودولف عبّود ، ونؤيّد ما صرّح به لموقع ( ليبان24) في العاشر من الجاري وقد عدّد الأسباب التي قد تحول دون عودة التلامذة الى مدارسهم الشهر المقبل. باختصار، القطاع التربويّ لا يملك ترف الوقت فلنسارع الى طلب سلطة إشراف تربويّ.

*نبيل قسطه الامين العام لرابطة المدارس الإنجيلية في لبنان