جرت العادة على أن يطالعنا المنجمون بتوقعاتهم مع نهاية عام وبداية عام جديد، لكن ثمة تقليد بدأ يشق طريقه، يجعل من توقعاتهم وجبة فصلية أو شهرية دسمة، تهتم بها وتروج لها وسائل إعلام، من بينها وسائل رصينة، في ظل أزمات سياسية طاحنة.
الهروب من تعقيدات الأوضاع السياسية، ومن نكد السجال والمهاترات بين السياسيين في دائرة مفرغة، ومن المعارك بينهم التي كثيراً ما تتحول إلى حروب ضد طواحين هواء، كل ذلك يدفع شريحة واسعة من الناس في البلدان العربية للاهتمام بما يطالعهم به المنجمون، الذين تحوَّل معظمهم للتنجيم السياسي، ولا يتورعون عن إدعاء معرفتهم بكل صغيرة وكبيرة في حياة رجال السياسة والشخصيات العامة ومستقبلهم، وأوضاع البلد وأحواله وما ستحمله له الأيام في حقول السياسة والاقتصاد والمجتمع.
لا يعد الاهتمام بالتنجيم ظاهرة جديدة تماماً، بل كانت موجودة في السابق، لكنها كانت محصورة في نطاق قراءة الأبراج الشخصية، وبحدود معينة كانت تمد شباكها نحو شخصيات عامة فنية وثقافية، لم يكن يجرؤ أحد من المنجمين على الدخول في دهاليز التنجيم السياسي، كما أن التغطية الخاصة بالتنجيم بقيت محصورة بعدد من والمجلات ذات الطابع الفني- الاجتماعي، قبل أن تغزو الفضائيات الخاصة وتنتقل عدواها إلى الفضائيات الحكومة، وتصبح مادة تتعاطى بها صحف ومجلات عرف عنها على الدوام الرصانة والجدية والمهنية.
جريدة “النهار” اللبنانية واحدة من تلك المنابر الرصينة، واتسمت على الدوام بمستواها المهني العالي، مما مكنها من أن تفرض نفسها كجزء رئيس من الوجبة الإعلامية الصباحية على طاولات المشتغلين بالسياسة والمثقفين والمهتمين، سواء كانوا يتفقون مع خط هذه الجريدة أو يختلفون معها، وللإنصاف حافظت “النهار” على مستوى من التنوع في الآراء مكنها من أن تكون مقبولة لدى شريحة واسعة من القراء، وأن تخوض منافسة مع كبريات الصحف في بيروت والمهجر، ومازالت حتى اليوم تصنف في المراتب المتقدمة.
الكثيرون من أبناء جيلي في المشرق العربي كانوا حريصين على قراءة جريدتي “النهار” و”السفير”، اللتين خرجتا جيلاً مهماً من الكتاب، بالإضافة إلى جرائد وصحف عربية أخرى، ومازال متابعو هاتين الجريدتين يحرصون على ذلك من خلال متابعة ما ينشر على الموقعين الإلكترونين لهما، لصعوبة الحصول على النسخة الورقية، غير أن النكهة ليست ذاتها بالمقارنة بين النسخ الورقية قبل سنوات وبين ما ينشر في الموقع الإلكتروني، وربما هذا يعبر عن وجهة نظر شخصية قد لا يتفق معها البعض.
موضوعنا هنا ليس تقييم جريدة عريقة ومهنية مثل “النهار” البيروتية، بل الإضاءة على انفتاح السياسة التحريرية على مواضيع كانت تتحاشاها في السابق، مثل إفراد مساحات واسعة للتنجيم، حيث نشرت الجريدة على موقعها الالكتروني، على سبيل المثال لا الحصر، تسجيل فيديو، وصفته بـ(خاص النهار)، لمقابلة مع المنجم الفلكي الدكتور سمير طنب، والذي عرّفته المذيعة التي أجرت معه المقابلة بأنه عالم باراسيكولوجي (علم التخاطر- وما وراء النفس)، عنوان المقابلة توقعات سمير قطب للمرحلة المقبلة، عرض فيها خلال ما يقارب 8 دقائق فقط توقعاته لأزمة الفراغ الرئاسي والمرشحين الذين سيدخلون في السباق، مبشراً اللبنانيين بأنه سيتم انتخاب رئيس لمدة سنتين في القريب العاجل عبر طاولة الحوار الوطني، وتوقع نسب تقاسم المقاعد في الانتخابات البلدية ومستوى الالتزام بالتحالفات، وعرج على أزمة النفايات مبشراً أيضاً بقرب حلها، كما توقع الإفراج عن أسرى الجيش اللبناني لدى (داعش)، وتحسن العلاقات بين الحكومة اللبنانية والمملكة السعودية، وانفتاح الرياض على منافسين للحريري في الوسط السني، وتراجع شعبية الحريري ونسبة تمثيله في البرلمان..الخ.
وفي نهاية المقابلة تحدث عن توقعاته بخصوص أبرز السياسيين والروحيين اللبنانيين مع حفظ الألقاب، نبيه بري وتمام السلام والبطريرك بشارة الراعي وحسن نصر الله وسعد الدين الحريري ووليد جنبلاط وميشال عون وسمير جعجع وسليمان فرنجية، فيها تفاصيل دقيقة عن ما قد يقدم عليه هؤلاء والتداعيات التي ستترتب على ذلك. والملاحظة الأبرز أن من تابع المقابلة يوضع أمام صورة تدعوه إلى عدم إجهاد النفس بالقراءة والتحليل، فالمنجم سمير قطب يرسم له صورة بانورامية متكاملة، عليه أن يصدقها، لاسيما أنها منشورة على موقع جريدة رصينة ومهنية مثل “النهار”، لكن لن يأتي أحد في الغد ليسأل قطب عن عدم صحة توقعاته، ولن يحمل الجريدة أي مسؤولية، فالحجة واضحة على الأقل من جانب الجريدة التنجيم ليس بعيداً عن طابع التسلية.
وفي الحالة اللبنانية والعديد من الحالات العربية موات السياسة يؤدي إلى ازدهار التنجيم السياسي.. حالة مرضية ليس إلا كانت تطل برأسها مع نهاية كل عام واليوم تصبح فصلية أو شهرية، وتجذب قطاعاً واسعاً من المتابعين، مهم من أجل صمود وسائل الإعلام الخاصة مادياً، وللأسف لا أحد يهتم بالبلبلة التي يمكن أن تثيرها توقعات المنجمين.