Beirut weather 22.43 ° C
تاريخ النشر March 28, 2017
A A A
من مواكبهم تعرفونهم
الكاتب: داود الصايغ - النهار

كان الأمير خالد شهاب، أول رئيس وزراء في عهد الرئيس كميل شمعون عام 1952، لايزال حتى منتصف ستينات القرن الماضي، يقف على رصيف طريق الشام ينتظر مرور الترامواي ليصعد إليه. وكان طلاب الحقوق آنذاك القادمين إلى جامعة القديس يوسف القريبة، يتطلعون إليه بإعجاب، وهو يصعد درجة الترام بظهره المنحني، ويقطع تذكرة من الجابي، ويجلس قرب الناس مثله مثل غيره.

كان المير خالد يومذاك مكتفياً بشخصه، بنبل محتده وشبع نفسه. لم يكن لديه سيارات وموكب. كان هو الموكب. دونما حاجة إلى دراجات وسيارات مصفحة وصفارات لتدل عليه. وكان يكفيه أن يلقي المارة التحية عليه ليشعر بالوفاء والإحترام.

فيومذاك كان الحكام مثلهم مثل سائر الناس. لأنهم كانوا أكبر من الكراسي، كانوا حرّاس أنفسهم وضمائرهم، تعلو بهم الكراسي ولا يعلون بها.

ولكن، في مطلع السبعينات، جاء من يقول للرئيس سليمان فرنجية إن المير خالد شهاب، مثل أرملة الرئيس حبيب باشا السعد ومثل أرملة الرئيس شارل دباس التي كانت لا تزال على قيد الحياة، ربما كانوا يحتاجون إلى مبادرة من الدولة لمساعدتهم في تأمين مواردهم المعيشية. فصدر قانون عام 1974 يلحظ مخصصات للرؤساء ورؤساء الوزراء السابقين وعائلاتهم.

كان ذلك هو المنطلق، قبل أن تتطور الأمور وتتسع لتشمل النواب السابقين ورؤساء المجالس وعائلاتهم وفق تعديل عام 1998.

حدث ذلك يوم كان المسؤولون يخرجون من السلطة بأرث الكرامة والزهد العالي والهامات المرفوعة بالتواضع ورضى النفس والناس. حدث ذلك يوم كانت السياسة قضية تستمد جذورها من نبل الثوابت والمضي بوطن يتجدد بناؤه كل يوم. الحروب خربت الكثير بالطبع ونقلت إلينا، من جملة ما نقلت، ذلك الضجيج السياسي والإعلامي، وفلتان الصور واللافتات من أي نوع كانت، ترفع بدون حساب أو محاسبة، حتى بالنسبة إلى الذين يفترض فيهم أن يكونوا صامتين. ونقلت إلينا أيضاً هذه الظاهرة المتزايدة بالمواكب، وبخاصة بالنسبة إلى الذين لا أخطار البتة عليهم.

كان موكب الرئيس رفيق الحريري من أقوى المواكب الأمنية في لبنان والعالم، وقد صفّح سياراته متخصصون محترفون، تبين أنهم كانوا أقل حرفية من قدرات المجرمين الذين استخدموا قرابة ألفي كيلوغرام من المتفجرات لتفجير موكبه، وجميع الذين سقطوا من بعده، لم تحمهم المواكب والسيارات المصفحة. فمواكب اليوم هي لأمور أخرى، لاعلاقة لها بالأمن في معظم الأحيان. فهل سأل أحد كم تكلف هذه المواكب وكم تكلف رواتب العناصر الأمنية التي ترافقهم وترافق مسؤولين سابقين سياسيين وعسكريين وأمنيين؟ فنحن في هذا المجال لسنا بحاجة الى أن نتشبه بمسؤولي الغرب، بل بمسؤولي الأمس.

بالطبع هنالك ما هو أخطرمن ذلك. فهناك ركائز النظام التي أصبحت مهددة نتيجة ممارسات حولت الشركة الوطنية إلى عملية محاصصة سافرة.
اللبنانييون يتابعون المعركة الرئاسية الفرنسية ويبتسمون لمحاسبة أحد أبرز المرشحين، فرنسوا فيون، الذي أهدى اليه اللبناني الأصيل روبير برجي بذلتين فاخرتين، بعد إتهامات أخرى واجهوه فيها وهو كان المرشح الأوفر حظاً للرئاسة. فهي حادثة لاتستحق الذكر بالنسبة إلى بعض اللبنانيين، ولكنها فضيحة أسهمت في تدمير مصير شخص مرشح لرئاسة دولة كبرى. دولة الحق وحماية الأخلاقيات بالقانون بالنسبة إلى الذين يفترض أن يكونوا القدوة.

فإذا كان الكثيرون في لبنان يتحدثون عن ضرورة إحترام عمل المؤسسات، إلا أنهم ينسون أن قيمة المؤسسات تأتي من قيمة القيمين عليها. إذ ما نفع النصوص إذا كانت مجرد كلمات مدونة في الدستور والقوانين. فالدولة ومؤسساتها ليست نظريات مجردة. إنها واقع يأخذ شكل المسؤولين عنها. تعلو المؤسسات أو تهبط بمقياس الأشخاص. من روزفلت إلى ايزنهاور إلى جون ف. كينيدي وصلت أميركا إلى دونالد ترامب الذي أحدث حتى الآن من الأضرار ما عرض الثوابت الأميركية كلها للخطر، قبل أن يحاول المحيطون به لملمة الخراب والعودة إلى الأصول. ومن شارل ديغول وفرنسوا ميتران وجاك شيراك وصلت فرنسا إلى مستويات حكام جعلت المسؤول عن مجلة “الإكسبرس” كريستوف باربييه يصدر كتاباً عنوانه “ولايتان من أجل لا شيء”، متحدثاً عن نيكولا ساركوزي و فرنسوا هولاند معاً، اللذين كانا بدون شك، عبر شخصيهما وإدائهما أدنى بكثير من الحكام الذين إلتقوا مع التاريخ أو صنعوه.

لبنان لم يبخل بالكبار، لا بل أنه في الحقيقة من صنع الكبار، على مستوى الحكم أو على صعيد المجتمع. وإلا كيف ولد هذا الوطن على أساس ما يمثله من نموذج؟

الكبار فهموا لبنان التجربة وليس لبنان المحاصصة. الكبار وقفوا في المكان المرتفع وألقوا نظرهم على تلك المساحة الجغرافية الصغيرة الرقعة، ورأوا فيها إطلالة على مشارف الدنيا بأسرها.

فهناك فرق كبير بين من يُعطي ومن يأخذ. فلبنان بلد العطاء لأن هنالك من أعطاه بدون حساب. ومن أعطاه تضحية وشهادة وفكراً وعلماً وإنجازاً. الخراب يأتي من تعدد الأيدي الممتدة إلى المغانم، من تنافس جائعي النفوس، من تلاشي القيم وتعطل الروادع. فالنظام لايشكو من شيء حتى يطالب البعض علناً بمؤتمر تأسيسي. يؤسسون لماذا؟ لنظام حكم جديد. وما هو شكل هذا النظام؟ هل تجرأ أحد على طرحه؟ هل قال أحد ماذا يريد غير صيغة العيش الواحد، غير النظام الديموقراطي البرلماني الحر، غير التوازن بين المكونات البشرية، والإنفتاح على المحيط والعالم؟

لذا فإنه من العجب بمكان أن تظهر مطالبات بمؤتمر تأسيسي حتى وإن كانت لأهداف سياسية آنية. كأنها هروب ولكن إلى أين؟ إلى أين يريد الوصول أصحاب هذا المطلب؟

فليست في لبنان أزمة نظام. لعلها أزمة أشخاص. لعلها إرادة لم تستعد بعد لترسيخ بناء الدولة. لأن للدولة ركائز موجودة، وقوانين تحميها، وهذا هو الأساس في حياة الأوطان وتقدمها. فتلك هي الحدود الأخرى للحماية، وهي ليست مقتصرة على الوسائل العسكرية والأمنية. فحماية لبنان يفترض ان تكون مخزونة في الضمائر. في ضمائر جميع الذين تؤول إليهم مسؤوليات المصير، أو أولئك الذين يعتبرون أنفسهم مسؤولين عنه، في أي موقع كانوا. وهو سر الصمود والاستمرار.

  • الصورة من وحي المقال