Beirut weather 14.41 ° C
تاريخ النشر November 19, 2022
A A A
«من سبق شمّ الحبق»؟
الكاتب: طارق ترشيشي - الجمهورية

ما أشبه اليوم بالبارحة، اليوم هو الاستحقاق الرئاسي لسنة 2022 التي توشك على نهايتها، والبارحة استحقاق العام 2016 الذي جاء بالعماد ميشال عون الى رئاسة الجمهورية لست سنوات انتهت في 31 تشرين الاول المنصرم.

اليوم تبدو صورة الاستحقاق الرئاسي مشابهة لسلفه مع فارق الاختلاف في الاشخاص، لأنّ الاصطفافات السياسية هي نفسها كما كانت عام 2016 قبل ان تتغيّر لمصلحة انتخاب عون بعد تجاوز الرئيس سعد الحريري ترشيحه يومها لرئيس تيار «المرده» سليمان فرنجيه ودخوله وحلفائه في تسوية مع عون وحلفائه، سُمّيت يومها «تسوية رئاسية»، كان يُفترض بموجبها ان يبقى الحريري رئيساً للحكومة او للحكومات التي تؤلف في عهد عون الذي انتُخِب وأُنهي فراغ في سدّة رئاسة الجمهورية دام سنتين ونصف سنة بعد انتهاء ولاية الرئيس السابق ميشال سليمان.

ولا مبالغة في القول انّ التاريخ يعيد نفسه الآن مع الاستحقاق الرئاسي الجديد. قوى المعارضة متموضعة في موقف يؤيّد، الى الآن، ترشيح النائب ميشال معوض الخارج من الكنف العوني، وربما يكون لديها مرشح آخر او تفكر في ان يكون لها تموضع جديد مفاجئ. وفي المقابل، «حزب الله» وحلفاؤه او «الثنائي الشيعي» وحلفاؤه، يتموضعون في موقف يؤيّد او يتمنى وصول فرنجيه إلى سدّة رئاسة الجمهورية. فيما رئيس «التيار الوطني الحر» يتموضع في موقف يرفض حتى الآن ترشيح فرنجيه وأي مرسح آخر، وينادي احياناً بوجوب حصول اتفاق بينه وبين «الثنائي الشيعي» وفرنجيه على ترشيح شخصية ثالثة (غير باسيل وفرنجيه) يمكن ان تشكّل قاسماً مشتركاً في ما بينهم.

فباسيل قال انّه شخصياً يؤيّد ترشيح فرنجيه وانّ له مصلحة في ذلك، ولكنه لا يؤيّد هذا الترشيح على مستوى موقف تياره، ما يعني انّه لا يؤيّده في المطلق، لأنّه لا يزال يراهن على توافر فرصة لكي يترشح هو شخصياً، خصوصاً إذا نجح في رفع العقوبات الاميركية عنه، موسطاً لهذه الغاية الفرنسيين حيناً والقطريين أحياناً، ولكنه لم يحصد إلى الآن اي نتيجة عملية، الأمر الذي يدفعه إلى «المنتعة» والمماحكة المدروستين، هادفاً إلى تأخير إنجاز الاستحقاق الرئاسي ما امكنه، علّه يحقق «فتحاً ما» في الجدار الاميركي، يعتقد انّ من شأنه ان يؤهله للوصول إلى سدّة الرئاسة، مع العلم انّه سمع من حلفائه ومن القاصي والداني، أن لا امكانية لوصوله إلى بعبدا في هذه المرحلة، حتى ولو زالت العقوبات الاميركية عنه، او حتى ولو لم تكن هذه العقوبات موجودة، لأنّ الجميع مقتنعون انّ انتخابه سيعني استمراراً لعهد عون الذي لم يكن موفقاً بكل المعايير، ووصلت خلاله البلاد إلى «جهنم» التي كان سيّده شخصياً توقّعها، وقد برّر فشل عهده بالاستعانة بقول الإمام علي «انّ الحق لم يترك لي صاحباً»، معتقداً انّ «التزامه الحق» خلال تولّيه مسؤولية الرئاسة الاولى، هو ما خلق الصعوبات والعداوات السياسية في وجهه، ما حال دون ان يحقق ما طمح اليه في عهده، علماً انّ البعض يقول انّ باسيل بتصرفاته وكأنّه «رئيس الظل» إلى جانب عون، هو الذي لم يترك له صاحباً ايضاً، بدليل انّه تباين في الموقف بعض الاحيان مع حلفائه، وظلّ على صدام مع الآخرين الذين، ولكن، والحق يُقال، انّ هؤلاء الآخرين لم يقصّروا في معارضتهم المستمرة له، والتي لم تذلّلها لا المناسبات ولا اللقاءات، وربما يكون الاتفاق على ترسيم الحدود «الفترة الذهبية» الوحيدة التي كانت بينه وبين معارضيه الذين يُطلق عليهم البعض اسم «حلفاء الحلفاء».

على انّه في خلال الاستحقاق الرئاسي السابق، تصرّف «حزب الله» وحلفاؤه في نظرتهم إلى عون وفرنجيه، انّ «هذا عين وهذا عين»، ولكن الاولوية لديه كانت لعون احتراماً لالتزام أدبي ثم سياسي تجاهه، خصوصاً انّ الرئاسة كان يجب ان تكون من نصيبه بعد «اتفاق الدوحة»، ولكن لأسباب ما يومها أُعطيت الفرصة لميشال سليمان لإمرار مرحلة فرضتها الظروف والتطورات الخطيرة التي مرّت فيها البلاد آنذاك.
واليوم ينظر «الحزب» وحلفاؤه النظرة نفسها إلى فرنجيه وباسيل «هذا عين وهذا عين»، ولكن الأولوية هي لفرنجيه، مع العلم انّ «حزب الله» ما زال متفرداً في الموقف الذي أعلنه، وهو ان «ليس لديه مرشح للرئاسة وإنما سيدعم مرشحاً». ولم يجاهر إلى الآن بأي ترشيح لفرنجيه حتى لا ينقضّ الآخرون على الرجل ويصفونه بأنّه «مرشح حزب الله»، فيما حلفاؤه يجاهرون بتأييدهم رئيس تيار «المرده»، ويؤكّدون انّهم على استعداد لانتخابه عندما تتوافر الظروف الموضوعية لهذا الانتخاب. فقد عقد مجلس النواب 6 جلسات انتخابية الى الآن ولم يتمكن من انتخاب رئيس، بسبب غياب التوافق بين كتله على انتخاب مرشح يرتضيه الجميع. المعارضون يتمسكون بترشيح معوض الى الآن و»حزب الله» وحلفاؤه ومعهم «تغييريون» يستعينون بالاقتراع بالاوراق البيض، إلى ان تحين ساعة التوافق داخلياً ولدى العواصم المتعاطية الشأن اللبناني.

على انّ معاندة باسيل السياسية في رفضه تأييد ترشيح فرنجيه لم تلغ تأييده الشخصي لهذا الترشيح، ولكنه بمعاندته، يقول البعض، انما «يغلّي سعره» ويحاول تكريس نفسه «بيضة القبان» او الناخب الأكبر في الاستحقاق الرئاسي، ليرتقي بذلك الى الحصول على التزامات مسبقة من فرنجيه، تتيح لـه ولـ «التيار الوطني الحر» تحقيق مزيد من المكتسبات التي تعزز حضوره في الشارع المسيحي على حساب خصومه فيه، ومن ثم على المستوى الوطني.

هي لعبة مكشوفة يلعبها باسيل، ولكنه لا يعترف بها علناً، ولكنها تصطدم بحقيقة انّ فرنجيه لا يمكن إذا انتُخب، يقبل بأن يكون مقيّداً بأي التزامات لباسيل او لغيره، من شأنها ان تنهي عهده قبل ان يبدأ. فالرجل، كما قال عنه السفير جوني عبده اخيراً، إذا انتُخب رئيساً سيكون للجميع ولن يبقى رئيساً لتيار «المرده» مثلما بقي عون رئيس ظل لـ»التيار البرتقالي» مراعياً مصالحه ولو على حساب دوره كرئيس للجمهورية.
ولكن، الى ان يحسم باسيل خياره الرئاسي النهائي، فإنّ خصومه يراقبون وبتابعون ما يدور في شأن الاستحقاق الرئاسي داخلياً وخارجياً، والذي يشي بأنّ الفراغ الرئاسي سيطول الى أبعد من نهاية السنة الجارية. لذلك، وانطلاقاً من حسابات شخصية وسياسية، لا يستبعد البعض حصول تحول ما ربما يكون مفاجئاً في موقف رئيس حزب «القوات اللبنانية» الدكتور سمير جعجع لمصلحة فرنجيه، خصوصاً إذا ثبت لديه انّ ترشيحه يحظى عملياً بتأييد عربي ودولي. فجعجع يدرك قبل غيره، انّ فرنجيه رجل موقف ويحترم التزاماته، ولا يمكن ان يتعاطى بكيدية او تشفّي مع الخصوم، بدليل انّ العلاقة بينه وبين «القوات» تتميز بكثير من المرونة، وربما يكون من مصلحته ومصلحتهما التلاقي في الاستحقاق الرئاسي، وهو تلاقٍ من شأنه ان يقفل ملفات قديمة بين الجانبين، والتي أصلاً باتت شبه مقفلة، في ضوء ما حصل من حوارات ولقاءات بين «القوات» و»المرده» في كثير من المراحل، الى درجة انّ «القوات» تمنت في أحد اللقاءات على قيادة «المرده»، التوسط لقيام حوار بينها (اي «القوات») وبين «حزب الله». كما انّه في حسبة بسيطة، تستطيع «القوات» ان تحقق مكاسب كثيرة، مسيحياً وسياسياً، إذا دعمت ترشيح فرنجيه، خصوصاً اذا ظل خصمها باسيل على عناده ورفضه تأييد رئيس «المرده»، الذي إذا وصل الى بعبدا يأخذ من مؤيّديه المسيحيين وغيرهم اقل بكثير مما سيعطيهم او مما سيستفيدون من وجوده في سدّة رئاسة الجمهورية، لأنّه سيتعاطى وطنياً مع الواقع وليس طائفياً او فئوياً، وربما بكون تياره آخر المستفيدين من هذا الموقع الذي كرّسه الدستور حَكَماً بين الجميع.

ولذلك، يتساءل بعض السياسيين المتابعين: هل يفعلها جعجع ويستدير لتأييد ترشيح فرنجيه، خصوصاً إذا لمس انّ هذا الترشيح سيكون مشفوعاً بتزكية عربية ودولية، وذلك مثلما استدار لتأييد ترشيح عون عام 2016، عندما أدرك التأييد العربي والدولي له، وإن كانت العلاقة بينهما ساءت لاحقاً وسقط «تفاهم معراب» بينهما لأسباب معروفة لدى الجميع؟
لا يستبعد هذا البعض ان يفعلها جعجع ويسبق باسيل اليها، خصوصاً انّ الاخير بات، في رأي عارفيه، لا يمكنه الذهاب الى أبعد مما وصل اليه في رفضه ترشيح فرنجيه. ويعلّق هؤلاء السياسيون على مشهد باسيل وجعجع إزاء فرنجيه قائلين: «من سبق شمّ الحبق».
علماً انّ رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط، ليس مستبعداً له ان يستدير لتأييد فرنجيه، في الوقت الذي بدأت كتلة «النواب التغييريين» وكتل أخرى صغيرة، تتفكّك وتتنوع ولاءاتها، وسط بقية الكتل النيابية والقوى السياسية التي تنتمي اليها، خصوصاً انّ الجميع بدأوا يدركون ويلمسون انّ «تسوية رئاسية» جديدة يجري تركيبها في مكان ما، سيكون عنوانها انتخاب «رئيس توافقي» هو في الحقيقة «الإسم الحركي» لتوافق على تركيبة سلطة تنفيذية جديدة يقبلها الجميع وتتكون من رئيس جمهورية ورئيس حكومة جديد، وحكومة تشكّل ورشة لانتشال لبنان من جهنم الانهيار التي سقط فيها.