Beirut weather 19.41 ° C
تاريخ النشر November 26, 2021
A A A
من تدخل السياسة في القضاء إلى تدخل القضاء في السياسة
الكاتب: ناصر قنديل - البناء

– في بداية التسعينات طرح بعض السياسيين سؤالاً عنوانه، هل أن أولوية الملف الأمني المتمثل بسحب الأسلحة وحل الميليشيات وإعادة توحيد الجيش، سيفتح الشهية الدولية نحو اعتبار الجيش حصان الرهان السياسي الأول، بحيث ننام ونصحو على تعاظم دور المؤسسة العسكرية، ونستعيد صورة الرؤساء الذين يلبسون البزة العسكرية، وعلى رغم تجاهل الكثير من السياسيين لهذه المعادلة، تقول وقائع ثلاثة عقود لما بعد اتفاق الطائف إن العسكر تصدروا الواجهة السياسية، فما كادت مفاعيل توحيد الجيش وحل الميليشيات تكتمل، حتى صار الرئيس المدني الياس الهراوي آخر الرؤساء الآتين من المجتمع السياسي، وصار الذين تناوبوا قبل الطائف وبعده على منصب قائد الجيش يدخلون إلى قصر بعبدا كرؤساء للجمهورية، ويبدو اليوم أن الأميركيين الذي يعاقبون لبنان بعقوبات جماعية يؤكدون بما لا يقبل التأويل عزمهم على مواصلة الاستثمار على علاقتهم بالجيش، لكنهم يضعون لهذا الاستثمار سقفاً أمنياً لا سياسياً، ويتراجع السقف السياسي الذي كانت عليه الحال في السابق، فالعنوان السياسي الرئيسي في زمن المواجهة الأميركية مع المقاومة لا يتخذ عنوان الرهان على المواجهة العسكرية والأمنية، فالأميركي يسلم، كما قال الكثير من المسؤولين الأميركيين صراحة، بأن تعريض الجيش لمخاطر الزج به في مواجهة مع المقاومة، يفوق قدرة الجيش وقابليته للاستجابة، والحفاظ على تماسكه.
– في السياسة طور الأميركيون مقاربتهم منذ 17 تشرين الأول 2019، واعتبروا أن عنوان مكافحة الفساد هو الأنسب لتقدم الأجندة الأميركية في مواجهة المقاومة، على رغم القناعة الأميركية بلا جدوى تجاوز اتهام المقاومة بالفساد من الشعار إلى التفاصيل بتقديم أي واقعة مكتملة تؤكد هذا الاتهام، بينما يمكن، كما أكد كثير من المسؤولين الأميركيين إلحاق الأذى بحلفاء المقاومة تحت هذا العنوان، ولو اقتضى الأمر إصابة عدد من حلفاء واشنطن، الذين أظهروا بنظر واشنطن تخاذلاً في خوض المواجهة مع المقاومة بداعي الحرص على السلم الأهلي، وخرجت دراسات وتحليلات تتحدث عن تجديد الطبقة السياسية، بإنشاء مئات وآلاف منظمات المجتمع المدني في مناخ 17 تشرين والدفع بها إلى الواجهة السياسية، وجاءت العقوبات الأميركية على سياسيين ورجال أعمال لبنانيين تؤكد هذا المنحى، لكن دفع المعركة تحت عنوان الفساد لتجديد الطبقة السياسية، وبطريقة مستهدفة لحلفاء المقاومة وتقليص حضورهم السياسي، تستدعي إنهاض صف أمامي وخلفي في المستوى القضائي، يعيد إلى الواجهة السؤال الذي طرح في التسعينات بطريقة جديدة، هل نحن أمام زمن فتح الشهية الأميركية ومحاكاة الشهيات المحلية، وعلى أعتاب الاستحقاق الرئاسي، لنشهد مرشحين رئاسيين من القضاة، لكن بدلاً من شعار الجيش هو الحل، يتقدم شعار القضاء هو الحل؟
– يريد البعض منا أن نصدق أن الفرصة التي وفرها انفجار مرفأ بيروت لتظهير الدور القضائي في مواجهة السياسيين تعبيراً عن انتفاضة الجسم القضائي على التدخلات السياسية، وتمسكاً باستقلال القضاء، الذي كان متهماً بالتقصير والاستنساب والتبعية الطائفية والسياسية، فهل حدث بين ليلة وضحاها أن نزل الوحي وتغيرت الصورة، وما يقوله حجم التصعيد القضائي تحت عنوان التضامن بين القضاة في كل تفاصيل قضية التحقيق في انفجار المرفأ، والمجازفة بمخاطر رفضت قيادة الجيش تحمل مثلها، جسدها ما ظهر من علامات الانقسام الطائفي في المجتمع وصولاً إلى الجسم القضائي نفسه، إن التذرع السابق بالضغوط التي يمارسها السياسيون كان استساغة يسلس عبرها القضاة النفس للمطالب السياسية طلباً للنفوذ والسلطة، ويعيدون فعلها اليوم بالتمرد على السياسة طلباً للتدخل فيها من باب أوسع، تتيحه النظرة الخارجية التي تدعو القضاء لملء الفراغ الناجم عن تراجع الجيش إلى الخلف، فيتقدم قضاة ليقولوا القضاء هو الحل، أي الرئاسة لقاض بدلاً من جنرال، ولا يمانعون من تدخل القضاة في السياسة تعويضاً عن زمن تدخل السياسة في القضاء.
– يريد البعض القول إن هذا تحول إصلاحي ثوري يستحق التشجيع بمعزل عن المقدمات والظروف، التي يمكن وضعها في حسن التقاط اللحظة المناسبة لهذا الانقلاب، فلماذا التشكيك طالما أن هناك إجماعاً على أولوية مكافحة الفساد، وأن اللبنانيين ضاقوا ذرعاً بالسياسيين وعبروا عن ذلك في انتفاضة الغضب في 17 تشرين، ويردون السؤال بالقول، ولماذا تضع المقاومة نفسها كخط دفاع أمامي عن الطبقة السياسية سواء في مرحلة 17 تشرين، أو في مرحلة الملاحقات القضائية، والجواب بسيط، لكن بسؤال أيضاً، وهو لماذا يحجم القضاء عن فتح ملفات المصارف ومصرف لبنان، طالما جوهر النظام الفاسد يجد قلعته الحصينة في نظام الريع الذي يرعاه مصرف لبنان وتمثل المصارف قوته الضاربة، وطالما أن الثورة على الفساد وإثبات الأهلية لقيادة العمل الإصلاحي تبدآن من هنا، ومن دون هذا الشرط يصير المشهد واضحاً، إعادة تعويم النظام الريعي التابع والمستتبع برموز جديدة أشد طواعية واستعداداً للمجازفة بتعريض السلم الأهلي للخطر، وأكثر عدائية للمقاومة، وأشد طائفية، من القيادات الطائفية، مقابل الوصول للسلطة، فهل هذا إصلاح أم خراب؟