Beirut weather 17.99 ° C
تاريخ النشر April 16, 2025
A A A
منتهي الصلاحية
الكاتب: د. قصي الحسين

كتب د. قصي الحسين في “اللواء”:

يخشى اللبنانيون على أنفسهم كل يوم، من غارة من هنا، ومن غارة من هناك. يموتون في اليوم عشرات المرات، وهم يتنقلون من مكان إلى مكان، وينظرون بعين الحذر لكل جار لا يعرفونه، خشية أن يجرّ عليهم الويلات. يزورون منازلهم في الضاحية وفي القرى، خفية وعلى عجل، يغادرون أحيائهم على عجل، حين تصلهم الأنباء الغادرة. فيضلّون الطرقات، ويضلّون المساكن الآمنة، ولا يعرفون أية قرية، هي أنعم لبالهم، حتى يؤمّنون فيها على أطفالهم وعلى عيالهم وعلى حاجاتهم من ماء وطعام ودواء، والعودة السالمة من المناطق المنكوبة.
هدأت الجبهات بعد «إتفاق وقف النار»، ولم تهدأ الحرب، بل زادت إتساعا، وزادت شمولية، ووصلت إلى الأماكن القصيّة و البعيدة، وإستجرت النيران إلى جميع البلاد، بعد أن كانت محصورة في الجنوب وفي الضاحية. يعيّن الأعداء أهدافهم، ويستهدفونها، بإستئذان وبلا إستئذان.

بات «إتفاق وقف النار»، أقلّه كما يبدو لنا، بلا «وقف النار». فالسماء مليئة بالمسيّرات في الليل وفي النهار، والأعداء يترصّدون ويتابعون وينشطون ويستهدفون بإنذار أو بلا إنذار، حسبما تدعو الحاجة للإعلان أو للتكتم بمزيد الترصّد والكتمان. صار البحارة والصيادون لا يستطيعون الخروج إلى البحر. وصار أهالي القرى، لا يستطيعون زيارة مقابر أهاليهم والشهداء. وصارت الأرض قحطاء جرداء سوداء، إسودّت الكروم والبساتين، واحترقت أشجار الزيتون والليمون، ولا تزال، قبل «وقف إطلاق النار»، ثم زادت كثيرا بعد «وقف إطلاق النار».
لا شيء تغيّر على المواطنين، إلّا هدوء وسكون وسكوت المقاومة، إلّا وقف أعمال المقاومة، إلّا ردم الأنفاق، ومصادرة الصواريخ وكل أشكال العتاد، إلّا المداهمات الليلية للأماكن والنواحي التي يشتبه بها، أو كانت مراصد مخازن ومنصات وغرف عمليات. كل شيء هادئ على جبهة المقاومة. وأما العدو، فلا يزال يلعلع في الجو والبحر والبر، يضرب هنا، ويقتل هناك، ويتابع سيارة على الطريق، ويحرق هذه الغابة، ويقتلع أشجار هذا الكرم أو ذاك، وينقلها على ظهور الشاحنات والبلاطات، كأنها من عتاد حربي مصادر، كأنها من المصادرات الحربية، أو كأنها صفقة من الصفقات، أو كأنها ترسانة عسكرية مهجورة، خلّفتها أعمال القتال.
ما هذا «الدجل» في «الإتفاق». وأحسب أن كل ذلك يجري تحت عيون لجنة «إتفاق وقف النار» نفسها. ولا نسمع صوت إحتجاج منها على إقتلاع الأشجار، ولا على حرق الكروم، ولا على الإنذارات الحمقاء للمواطنين بضرورة الإخلاء. لا نسمع صوت إحتجاج، لا من الأصدقاء، ولا من دعاة الصداقة والأخوة وأدعيائها، ولا حتى من الأشقاء.
أخشى أن يصير «إتفاق وقف النار»، الذي كتب على عجل، والذي وقع تحت النار والسكين على الرقبة، منتهي الصلاحية، إذ بات لا يخدم إلّا الأعداء، حيث هم يسرحون ويمرحون بموجبه في جميع المناطق وفي جميع الأرجاء، وباتوا يحلّقون في كل السماء، ولا يتورّعون عن التهديد بضرب بيروت كل يوم، وأنهم سيحملون إليها بكل أنواع القوة والمباغتة والاعتداء. فمرة يقولون إن صاروخا مشبوها، هو جريمة نكراء، فيلوّحون بالردّ عليه في بيروت، ويقولون بالفم الملآن: بيروت عندهم، ليست أفضل حظا من غزة!.. إنظروا ما صارت إليه وكان ما كان.
أحسب أن «إتفاق وقف النار»، شرط على لبنان، وليس شرطا على الأعداء، فصلاحيته واسعة عندنا: في جنوب الليطاني، وفي شمال الليطاني. وبات كل لبنان يردد مع الشاعر المهووس والممسوس بالليطاني، في زمن الأعداء: «طاني… طاني… طاني…».
غير أني أرى إتفاق وقف النار من جانب الأعداء، لا وجود له، لا أساس له، بل هو من جانبهم، منتهي الصلاحية، منذ اليوم التالي، وربما بعد دقائق من توقيعه الساخن، في معظم الأحوال!