Beirut weather 17.41 ° C
تاريخ النشر April 5, 2018
A A A
مغامرون خاطروا بحياتهم لكشف أسرار التغير المناخي
الكاتب: ديفيد كوكس - بي بي سي

خاطر خبراء المناخ في العصر الفيكتوري بحياتهم كثيرا لرصد بيانات تتعلق بالجو من أعلى جبل “بن نيفيس” باسكتلندا. واليوم، يساعدنا ما قدّموه من تضحيات في فهم آثار التغير المناخي.

كل عام، يزور نحو 150 ألف شخص جبل “بن نيفيس” باسكتلندا – وهو أعلى قمم بريطانيا، وقد تكوّن من مخلفات بركانية، ويبلغ ارتفاعه ألف و345 مترا فوق سطح البحر.

وغالبا ما يسلك السائحون دربا صخريا يتعرج بين حنايا الجبل باتجاه القمة. وقلّة من الناس تدرك أن هذا الدرب شُق أول مرة على يد بعثة علمية استثنائية في عام 1883، وأن هذا الموقع لا يزال، وبعد مرور أكثر من قرن، يمد العلماء البريطانيين بمعلومات مهمة تتعلق بالتغير المناخي.

ففي العصر الفيكتوري، كان البحث العلمي في بريطانيا أشبه بهواية يزاولها أشخاص متحمسون يمولون بعثاتهم ويشكلون جمعيات علمية، ومن بينها الجمعية الاسكتلندية للأرصاد، التي أسست شبكة من محطات رصد المناخ في أنحاء مختلفة من اسكتلندا بين عامي 1855 و1920.

وإبان ذلك الوقت، كانت الظواهر المناخية من قبيل المنخفضات الجوية، والعواصف، وغيرها تشغل بال الباحثين الراغبين في معرفة كيفية حدوثها. وبحلول عام 1875، بدأ إنشاء مراصد جبلية بأنحاء مختلفة من الولايات المتحدة، والمكسيك، والهند، وفرنسا، وألمانيا، وروسيا.

ومع رغبة الجمعية الاسكتلندية للأرصاد في اقتفاء نفس الدرب في بريطانيا، هم باحثوها ببناء مرصد مناخي بقمة جبل بن نيفيس. وفي البداية، عمد أحد أفراد الجمعية المتحمسين إلى تسلق الجبل يوميا طيلة أربعة أشهر، لا تثنيه عن ذلك العواصف الثلجية، ولا الرياح العاتية، أو الأجواء المتقلبة، بغية تسجيل قياسات الطقس على قمة الجبل.

وحصلت الجمعية على تمويل لبناء المرصد، وشراء المعدات اللازمة عبر مبادرة شعبية تحمس لها محبو العلم في القرن التاسع عشر، وكانت الملكة فيكتوريا بين المتبرعين.

وهكذا بدأت تجربة مدهشة عكست أفضل ما عُرف به أبناء العصر الفيكتوري من إصرار وسعي علمي، ففي الفترة بين عامي 1883 و1904 تجاسر البعض ممن يعدون على أصابع اليد الواحدة على العيش على مدار العام في كوخ حجري صغير فوق ذلك الجبل، من أجل تسجيل ملاحظاتهم من وقت لآخر فيما يتعلق بحرارة الجو، ودرجة الرطوبة، وسرعة الرياح ومعدل هطول المطر.

وتمكن هؤلاء الباحثون الأشداء من تسجيل قرابة مليون ونصف ملاحظة إجمالا، مخاطرين بحياتهم، ومتحدين الصعاب لتسجيل تلك البيانات في أجواء عُدت الأصعب.

* بين عامي 1883 و1904 عاشت مجموعة من الباحثين على مدار العام في كوخ حجري مسجلين ملاحظات مناخية على قمة بن نيفيس.

ويقول إيد هوكينز، أستاذ علوم المناخ بجامعة ريدينغ: “انخرط الكثير من الباحثين المعاصرين لهم في التخطيط لبعثات بالمناطق القطبية شمالا وجنوبا، أما هؤلاء فقد كانوا في طليعة الساعين لسبر أغوار الطقس”. ويضيف قائلا: “لقد عاشوا في أجواء بالغة الصعوبة، فكثيرا ما بلغت سرعة الرياح مئة ميل في الساعة، بينما انخفضت درجات الحرارة لنحو 15 درجة تحت الصفر، وكان الضباب يلفهم أغلب أيام السنة. وأحيانا كان الضباب ينقشع وتصير السحب أدناهم، مما كشف عن مناظر خلابة. ولا بد أن لحظات كهذه كانت تعوضهم عن كل ذاك التعب، إذ كان بإمكانهم الرؤية لمسافات بعيدة”.

وخلال الشتاء الأول في عام 1883، تعرض المستكشفون لأجواء غاية في الصعوبة، إذ أدت العواصف إلى تغطية قمة الجبل بأكملها بالثلوج بارتفاع متر ونصف، ووجد الرجال الثلاثة أن عليهم شق أنفاق بين الفينة والأخرى ليتمكنوا من اجتياز الثلوج والخروج من الكوخ.

ويقول هوكينز “كانوا مصممين على أخذ تلك القياسات كل ساعة، مقسمين العمل بينهم على نوبات بطول أربع إلى ثماني ساعات على مدار الليل والنهار، غير أن الأحوال الجوية السيئة حالت أحيانا دون ذلك”.

وبدلا من أن تدفعهم قسوة الظروف لليأس والانكفاء، ابتكر هؤلاء الباحثون حلولا خلاقة، من قبيل تشييد برج خشبي يمكنهم من الوصول إلى سطح المرصد، وأخذ القياسات في الأجواء العاصفة مع تثبيت أنفسهم بحبال. وأحيانا كانوا يجازفون باستخدام أجسادهم لقياس سرعة الرياح، حتى كادت الرياح في بعض الأحيان أن تقتلعهم من الجبل.

وتقول مارجوري روي، مؤلفة كتاب “مستكشفو المناخ في بن نيفيس”: “الخطر الرئيسي الذي واجهه هؤلاء كان القرب من شفا الجرف، فالقمة تمتد باتساع لا يزيد عن 61 مترا، بينما ينحدر الجبل بشكل حاد شمالا لمسافة 610 مترا”. وتضيف: “كانوا يأخذون قياسات من مكان شاهق بالجبل، أُطلق عليه ‘هضبة الرياح’، وكان الوصول لتلك الهضبة عبر ممر ضيق يسهل الانزلاق منه إلى هاوية عميقة”.

ولم تكن العواصف الثلجية والدروب الجبلية الخطرة هي كل ما يقلق هؤلاء المستكشفون، ففي مرتين ضربت صاعقة البرق مرصدهم؛ وفي المرة الأولى جاءت الصاعقة من المدخنة وأضرمت النار في الأرضية الخشبية لمكان إقامتهم، قبل أن يتمكنوا من إخمادها.

وخلال أشهر الصيف والخريف، حينما كانت أحوال الجو أهدأ، كان بعض المتطوعين يفدون على المرصد، ومعظمهم من الطلبة، وكان بين هؤلاء تشارلز ويلسون الذي ألهمته تجربته على قمة الجبل لدراسة السحب. ولاحقا حاز ويلسون جائزة نوبل للفيزياء عن اختراع “الغرفة السحابية”، وهي أول أداة لرصد الإشعاع والجزيئات الدقيقة – دون الذرات – التي لا يمكن رؤيتها بالعين المجردة.

وتقول روي: “لم يمض ويلسون أكثر من أسبوعين، غير أن هذين الأسبوعين منحاه أفضل معرفة ممكنة بظروف الضغط الجوي المرتفع، فضلا عن مناظر مدهشة. لقد أثارت هذه الأشياء حماسة الكثيرين، ومنهم أشخاص قادتهم تجربتهم على هذا الجبل إلى اكتشافات وابتكارات ذاع صيتها”.

وبحلول عام 1904، لم تعد الجمعية الاسكتلندية للأرصاد قادرة على توفير نفقات المرصد، ما أدى إلى إغلاقه، وظلت البيانات التي جمعت متوارية عن الأنظار في الغالب في مخازن الكتب.

بعث جديد
واليوم بات لدينا نماذج متطورة للتكهن بالطقس، يمكن تغذيتها بالبيانات المستقاة من قمة بن نيفيس لإنتاج صور ثلاثية الأبعاد للحالة الجوية. ويأمل علماء المناخ استخدام تلك النماذج لإعادة دراسة عواصف عاتية هبت قبل أكثر من قرن، منها العاصفة التي ضربت أيرلندا عام 1903 وأحدثت دمارا واسعا قبل اجتياز قمة بن نيفيس في اليوم التالي.

وتتمثل الخطوة الأولى في هذا المشروع، بقيادة هوكينز، في مقارنة البيانات السالفة من جبل بن نيفيس بقراءات حديثة لحالة الطقس.

ويقول هوكينز: “نحن نعيش في بقعة من العالم كانت وستظل عرضة للعواصف. ومع ذلك، نود أن نعرف ما إذا كانت تلك العواصف قد أصبحت أكثر أم أقل حدوثا، وهل أصبحت أشد أم أهدأ، وهل زاد هطول الأمطار خلال تلك العواصف، وهل تغير مسلكها”. ويضيف: “وبالعودة إلى الماضي ودراسة العواصف في تلك الفترة، سيكون بمقدورنا المقارنة بينها وبين العواصف الآن، ومن ثم الوقوف على التغيرات التي ربما طرأت جراء احترار المناخ بفعل النشاط البشري خلال القرن الماضي”.

وقد واجهت تلك الجهود صعوبة، إذ تعين تحويل كافة الملاحظات الأصلية المستقاة من جبل بن نيفيس إلى بيانات رقمية يمكن دراستها عبر النماذج الآلية الحديثة، وهي الملاحظات التي تضمنتها آلاف الصفحات المنشورة بدوريات علمية من مطلع القرن العشرين. وبينما صُورت تلك الصفحات، فإن طباعة مليون ونصف مليون ملاحظة لوضعها على الإنترنت يحتاج عادة لسنوات للانتهاء منه!

لكن آلاف المتطوعين من أنحاء أوروبا ساهموا في تحويل تلك الصفحات رقميا على مدار عشرة أسابيع فقط، خلال الربع الأخير من عام 2017.

ويقارن فريق هوكينز حاليا معدل الرطوبة في العواصف التي نشهدها الآن بمعدلاتها في أواخر القرن التاسع عشر، ويقول: “الأجواء الأكثر دفئا قادرة على الاحتفاظ بالرطوبة أكثر، وبالتالي فمن المتوقع أن يكون المطر أكثر غزارة جراء عواصف اليوم، مقارنة بعاصفة مماثلة الشدة قبل قرن مضى، وهو ما يدخل ضمن نتائج ارتفاع حرارة الكوكب”.

واليوم يجري التخطيط لتشييد مرصد حديث على أطلال الموقع السابق، وإن كان سيتم الاعتماد على أجهزة قياس آلية بدلا من العنصر البشري.

ويقول هوكينز: “منذ زمن بعيد لم تُسجل ملاحظات لفترات طويلة. لكن تلك الملاحظات ستطلعنا فورا على التغير المناخي على قمة الجبل، فالمناطق المرتفعة شهدت تغيرات أكثر وضوحا في درجات الحرارة، وهو ما سيكشف عن الكثير!”