Beirut weather 17.99 ° C
تاريخ النشر April 2, 2020
A A A
مصائب “كورونا” عند الأرض.. فوائد!
الكاتب: محمد طاهر - اللواء

قبل دخولنا عصر فيروس “كورونا المستجد”، سجلت انبعاثات غازات الدفيئة المسببة لاحترار الأرض، تصاعداً هائلاً ومستداماً بحيث بات عالمنا مهدداً بحدوث اختلال لا يمكن تعويضه لجهة التوازن البيئي. وقد أثبت البشر، عاماً بعد عام، أنهم غير قادرين على إيجاد صيغة موحدة وفعالة للتعامل مع مسألة مصيرية مثل التغيّر المناخي، جرّاء افتقادهم للإرادة الواعية اللازمة لذلك. لكن فيروساً متناهي الصغر، وبسيطاً من الناحية البنيوية الهيكلية (إذ لا يحتوي حتى على خلية واحدة) يعطينا اليوم درساً مؤلماً في كيفية تحقيق ما عجز عنه قادة العالم وساسته.. بطريقة لا تخلو من سوداوية وقساوة.

فمع تفشي جائحة “كورونا المستجد” وتأثر العديد من البلدان بانتشارها، فرضت حكومات في أنحاء متعددة من العالم حجراً صحياً على سكانها للحدّ من الخسائر البشرية التي تكاد تلامس الخمسين ألف ضحية. لكن من جهة أخرى، لوحظت ظواهر ذات أثر جيد على البيئة تفاوتت بين منطقة وأخرى. وقد تجلت هذه الظواهر في أبهى حللها لدى مدينة البندقية، إذ تحوّلت مياه قنواتها المليئة بالرواسب والجسيمات الرمادية ذات الرائحة الكريهة إلى مياه واضحة نقية، كما لوحظت عودة الأسماك والثدييات البحرية إلى ميناء المدينة بعد طول غياب. وسجلت عدسات الأقمار الاصطناعية المحلقة فوق الأرض انخفاضات ملحوظة في تركيزات ثاني أوكسيد النيتروجين، التي عادة ما تجثم فوق المدن الكبرى والمراكز الصناعية كثيفة الاستهلاك للطاقة عبر العالم.

25 في المئة تراجعاً

ومع بدء ظهور الإحصائيات العلمية المتعلقة بالتلوث، تبين حدوث تراجع خلال الأسابيع الأخيرة نسبته 25 في المئة في انبعاثات غازات الدفيئة لدى الصين، أكبر مساهم عالمي في مجال التغيّر المناخي، نتيجة فرض حكومة بكين المركزية قرارات صارمة تتعلق بحظر التجول لوقف انتشار فيروس “كورونا المستجد”. كما سُجلت انخفاضات ملحوظة في نسب تلوث هواء المدن الصينية جراء تقييد حركة السيارات والآليات، وتراجعت عمليات إحراق الفحم الحجري داخل أتون محطات توليد الطاقة جراء انحسار استهلاك الكهرباء في مختلف القطاعات الصناعية والتجارية. وبعدما أرسل فيروس “كورونا المستجد” موجة انتشاره الثانية في أوروبا، والثالثة في أميركا الشمالية، انحسر الطلب العالمي على النفط وانهارت صناعة النقل الجوي والسياحة، ودخل النمو الاقتصادي العالمي مرحلة انكماش، وهي أمور تُعد أهم مسبب لانبعاث غازات الدفيئة.

وفي حين لا يزال من السابق لأوانه تحديد النسب الدقيقة لتراجع انبعاثات غازات الدفيئة الحاصل على الصعيد العالمي، إلا أن الخبراء البيئيين لا يغفلون الدور الذي يلعبه انتشار فيروس “كورونا المستجد” في التخفيف من حدة هذه الانبعاثات.

فوفقاً للسجلات العلمية، فإن انبعاثات غازات الدفيئة في ارتفاع مطرد منذ عام 1900. لكن البيانات المسجلة منذ هذا التاريخ تُظهر كذلك حدوث تراجعات كبيرة، إنما نادرة، في الانبعاثات خلال سنوات بعينها. وترجع أسباب هذه التراجعات، في الغالب، إلى اندلاع حروب عالمية أو حدوث انكماشات اقتصادية كبيرة أو وقوع أحداث جيوسياسية هائلة مثل سقوط الاتحاد السوفياتي. ويقول غلين بيترز، خبير الانبعاثات الكربونية لدى “المركز النرويجي للأبحاث المناخية الدولية” والباحث المساهم في “مشروع الكربون العالمي”، إنه عندما يتعلق الأمر بتراجع الانبعاثات، فمهما كان المحرك وراء ذلك، فإنه يجب أن يكون تراجعاً عظيماً وعالمياً.

وحسب الإحصاءات المتوفرة، فإن آخر مرة شهد خلالها العالم تراجعاً كبيراً في الانبعاثات حدثت عامي 2008 و2009 في أعقاب “الركود العظيم”؛ حين انكمش الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة بنسبة 4.3 في المئة وتضاعف معدل بطالة عمالها ليصل إلى 10 في المئة. وترافق كل ذلك مع خسارة البورصات أكثر من نصف قيمها. ولكن حتى في تلك الفترة الصادمة الاقتصادية-الاجتماعية كان تراجع الانبعاثات العالمية عابراً، إذ ما لبثت هذه الأخيرة أن عاودت ارتفاعها فور زوال مسبباتها. لذا، يتوقع الخبراء الذين يراقبون أثر “سيناريو كورونا” البيئي، أن تعاود الانبعاثات شق طريقها إلى أجواء كوكبنا صعوداً مع إطلاق الدفعات الأولى للقاح المضاد لفيروس كورونا.

 

تراجع كبير وموقت

تقول إليزابيث إكنوميك، الخبيرة الصينية في مجلس العلاقات الخارجية، إن انبعاثات بلادها ازدادت عاماً بعد آخر على مدى السنوات الثلاث الماضية قبل أن يشل فيروس “كورونا المستجد” حركة مناطق بأكملها. وتضيف “إن كان ثمة جانب مشرق لكورونا، فهو التراجع الملحوظ في انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون خلال الأشهر الثلاث الأولى من هذا العام في الأقل”.

ومن المؤكد أن ارتداد الانبعاثات الكربونية إلى مستوياتها السابقة سيكون سريعاً جداً في ما لو قررت الصين دفع اقتصادها إلى النمو مجدداً، من خلال استراتيجيات التحفيز المالي والاقتصادي بمجرد انحسار تهديدات فيروس “كورونا المستجد”. وينطبق الأمر، بطبيعة الحال، على دول العالم الصناعية الأخرى التي ستحاول اللحاق بقطار النمو.

وتقول جوانا لويس، الخبيرة المتخصصة بقطاع الطاقة الصيني في جامعة جورج تاون، إن “تراجع الانبعاثات الحالي كبير لكنه بالتأكيد موقت. ومن المرجح أن يشهد ارتداداً قوياً. فبمجرد التحاق الناس بسوق العمل وإعادة تشغيل المصانع، سيحاول الجميع تعويض الوقت الضائع، ما سيؤدي إلى زيادة الانبعاثات”. ومع ذلك، يبقى تراجع الانبعاثات الذي شهدناه منذ بداية هذا العام، لدى اقتصادات الدول الأكثر إسهاماً في إنتاج غازات الدفيئة، غير مسبوق.

وقد وجد لوري ميليفيرتا، كبير محللي “مركز أبحاث الطاقة والهواء النظيف”، أن انبعاثات الكربون في الصين تراجعت 25 في المئة في الأقل خلال شهر فبراير (شباط)، مقارنة مع الفترة نفسها من العام الماضي. ويُقدِّر المحلل المتخصص أن هذه النسبة تعادل 200 مليون طن من ثاني أوكسيد الكربون. كما وجد أن تركيزات ثاني أوكسيد النيتروجين (NO2) المنبعثة من السيارات والشاحنات والصناعات كثيفة استهلاك الطاقة تراجعت بنحو 40 في المئة خلال نفس الفترة. إضافة إلى ذلك، انخفض تلوث الهواء بالجسيمات الصغيرة في جميع أنحاء الصين.

ويقول ميليفيرتا إن الانبعاثات “انتعشت قليلاً خلال الأسبوعين الماضيين في الصين، إلا أنها لا تزال بعيدة جداً عن مستوياتها العادية. فلقد انخفض الطلب على النفط والفحم والصلب، كما تأثرت القطاعات الصناعية الرئيسة بشكل عميق للغاية”. وتابع “من المرجح أن تنخفض مبيعات القطاع العقاري بشكل حاد خلال الربع الأول من العام في الصين، وأن يمتد تأثير تفشي الجائحة على مشاريع البنى التحتية وقرارات الاستثمار الأخرى لأشهر عديدة مقبلة. ويمكن لهذه العوامل مجتمعة أن تعيق النمو الاقتصادي وبالتالي تباطؤ الانبعاثات. ومن المؤكد أن ما ينطبق على السيناريو الصيني ينطبق على جميع مناطق العالم”.

من جهته، كشف “اتحاد النقل الجوي الدولي” في أحدث إحصائياته عن أن سوق السفر الجوي العالمي شهد خلال شهري يناير (كانون الثاني) وفبراير (شباط) “أدنى زيادة شهرية منذ أبريل (نيسان) 2010”. وأعلنت “يونايتد إيرلاينز”، كبرى شركات الطيران الأميركية خططاً لخفض كبير في رحلاتها الداخلية والخارجية خلال شهري أبريل ومايو (أيار) المقبلين، في ما قررت شركات محلية ودولية أخرى وقف نشاطاتها بشكل كامل.

وستشكل مثل هذه القرارات تراجعات مهمة على صعيد الانبعاثات، إذ تمثل صناعة النقل الجوي زهاء 3 في المئة من إجمالي انبعاثات غازات الدفيئة في الولايات المتحدة. وبهذا الصدد، يقول كينيث غيلينغهام، أستاذ الاقتصاد بجامعة يال “أتوقع أن يضرب فيروس كورونا بقوة قطاع النقل الجوي الذي يُعد الأكثر استهلاكاً للطاقة في البلاد”.

 

درس “الإنفلونزا الإسبانية”

وتزامنت كل هذه التطورات مع خفض منظمة “أوبك” و”الوكالة الدولية للطاقة” توقعاتهما للطلب على النفط في عام 2020، بفعل انتشار جائحة كورونا.

وقالت “منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية” إن الانتشار العالمي الواسع للفيروس، يمكن أن يخفض توقعات النمو الاقتصادي إلى 1.5 في المئة فقط خلال العام الحالي، على عكس توقعات سابقة بتسجيل نمو قدره ثلاثة في المئة. ويقول بيترز، الخبير في المركز النرويجي لأبحاث المناخ الدولي “إذا انخفض النمو العالمي من ثلاثة في المئة إلى 1.5 في المئة، فسيكون ذلك نمواً منخفضاً للغاية بالمعايير التاريخية، ولكنه لا يقترب من النمو السلبي الذي حدث أثناء الركود العظيم”. فخلال عامي 2008 و2009 تراجعت الانبعاثات العالمية بنحو 1.4 في المئة، وفقًا لأرقام مشروع الكربون العالمي. وهذا يعادل تراجعاً قدره 450 مليون طن من ثاني أوكسيد الكربون. ولكن مع إنهاء الركود، استؤنف النمو الاقتصادي بسرعة؛ إذ سجلت الانبعاثات العالمية في عام 2018، أي بعد تسع سنوات من هذا التراجع، نسبة أعلى قدرها 16 في المئة، ما يعادل خمسة مليارات طن إضافية كل عام من ثاني أوكسيد الكربون.

وتُظهر البيانات التاريخية لمشروع الكربون العالمي حدوث انخفاضات مؤقتة أكبر خلال لحظات الاضطراب العالمية. وإذا أخذنا “الكساد العظيم”، أطول فترات التدهور الاقتصادي وأشدها ضرراً على الولايات المتحدة والعالم منذ عام 1900، فسنجد أنه حدثت طفرات في معدلات البطالة لدى الولايات المتحدة وصلت إلى حدود 25 في المئة. وقد تراجعت الانبعاثات العالمية آنذاك (التي كانت أقل من اليوم بكثير) بنسبة 25 في المئة بين عامي 1929 و1932. ولم تتجاوز الانبعاثات مستويات عام 1929 مرة أخرى حتى حلول عام 1937.
ثمة أيضا دليل على تراجع الانبعاثات بين عامي 1918 و1919 في أعقاب تفشي “الإنفلونزا الإسبانية” المميتة، أسوأ جائحات التاريخ الحديث (إذ قضت على أكثر من 50 مليون شخص في جميع أنحاء العالم)؛ وهنا تبدو المقارنة أكثر وضوحاً مع ما يحدث اليوم مع فيروس “كورونا المستجد” لجهة أن الحدث بيولوجي وليس اقتصاديا أو سياسيا أو عسكريا.

فقد أدت “الإنفلونزا الإسبانية” إلى تراجع الانبعاثات بأكثر من 400 مليون طن من ثاني أوكسيد الكربون خلال عام واحد فقط. ومع ذلك، ينبغي التذكير بأن تلك الجائحة حدثت في أعقاب الحرب العالمية الأولى مباشرة، وليس من الواضح إن كان سبب التراجع هو الوباء فقط.

ويوضح روبي أندرو، الباحث في المركز النرويجي للأبحاث المناخية الدولية، أن الانبعاثات تراجعت كذلك بعدما ألقى المتقاتلون السلاح، فقد فرض السلام حداً للإنفاق على التسلح، إذ تقلصت صناعات الصلب، كثيفة الانبعاثات، واللازمة لإنتاج السلاح. ويقول أندرو “تُظهر السنوات التي تلت الحرب العالمية الأولى مباشرة مجموعة من العوامل المتداخلة”، وبالتالي يصعب فصل تأثيراتها شديدة الترابط.

وتؤكد حلقات تاريخية أخرى أن تراجع الانبعاثات يتطلب بشكل عام، حدوث اضطرابات اجتماعية أو اقتصادية هائلة لتحقيق انخفاضات ملموسة. ففي أكتوبر (تشرين الأول) 1973، ردت “أوبك” على دور الولايات المتحدة في الحرب العربية – الإسرائيلية، وفرضت حظراً نفطياً، وخفضت المنظمة إنتاجها فازدادت أسعار الخام أربع مرات، فارتفع التضخم على نطاق واسع، ودخل العالم في ركود اقتصادي حتى عام 1974. وكان ذلك أعمق ركود (استمر أربع سنوات) منذ منتصف الأربعينيات. وخلال تلك الفترة تراجعت انبعاثات غازات الدفيئة بشكل طفيف لبضع سنوات. وفي عام 1978، حدثت “صدمة نفطية” أخرى، بسبب الثورة الإيرانية؛ إذ تراجع إنتاج إيران النفطي ما أضرّ بشدة بالاقتصاد العالمي. وفي مواجهة ارتفاع نسب التضخم وانخفاض قيمة الدولار، ضغط الاحتياطي الفيدرالي على المكابح فرفع أسعار الفائدة إلى 19 في المئة عام 1981، في محاولة لكبح جماح التضخم الذي تمت السيطرة عليه في نهاية عام 1982. وشهدت تلك الفترة أشد ركود منذ “الكساد الكبير”، حيث تراجعت الانبعاثات لثلاث سنوات متتالية، ولم تتجاوز مستويات عام 1979 إلا بعد مرور ست سنوات بعد ذلك، أي في عام 1985.
وفي أوائل التسعينيات، عانى الاقتصاد العالمي من تباطؤ نمو الولايات المتحدة وانهيار الاتحاد السوفياتي، ما أدى مرة أخرى إلى تراجع متواضع ومؤقت للانبعاثات. ويقول ميليفيرتا إن “المقاربات بين الأحداث التاريخية الماضية التي شهد العالم خلالها تراجع انبعاثاته محدودة. وجائحة كورونا ليست طريقة إنسانية أو منطقية للاعتماد على مكافحة تغيّر المناخ. وللحد من الانبعاثات بطريقة مستدامة، نحتاج لأن يعمل العالم بطريقة نظيفة، وإلى الأبد. إذ لا يمكنك سجن الناس في منازلهم بحجة حماية المناخ”.
أما غيلينغهام فيقول إن “التحول الكامل من إحراق الفحم إلى الاعتماد على الطاقات المتجددة النظيفة، يمكن أن يوفّر تراجعاً للانبعاثات بنفس حجم حرب أو ركود أو وباء. ومن شأن التفكير بهكذا تحول أن يمنحنا الكثير من أسباب التفاؤل”.