Beirut weather 18.41 ° C
تاريخ النشر January 22, 2024
A A A
مشكلة لبنان في التلهّي بالمُناكفات بدلاً من التَّعامل مع المُستجدات وإدارة الأزمات
الكاتب: د. عادل مشموشي - اللواء

ليست المرَّة الأولى التي يتعرَّض فيها شاغل مقام رئاسة مجلس الوزراء للتطاول، إلَّا أن حِدَّة الانتقادات هذه المرَّة واعتماد توصيفات تخوينيَّة خارجة عن المألوف في الأدبيَّات السياسيَّة، في مرحلة حرجة يمرُّ فيها لبنان ومنطقة الشرق الأوسط لأمر مرفوض، خاصَّة وأن ما يقوم به دولة الرئيس ميقاتي وما يتَّخذه من قرارات تصبُّ مجتمعةً في تجنّب الإنزلاق في أتون حرب مُدَمِّرة مع الكيان الإسرائيلي، وضمان الحفاظ على كرامة لبنان تجاه صلف العدو، وفي الوقت عينه لرأب التَّصدُّعات الداخليَّة أو التَّخفيف من حِدَّتها.
ليس لعاقل أن يحسد دولة رئيس الحكومة على موقعه في هذا الظرف العَصيب بالذات، والمسؤوليَّات الملقاة على عاتقه بصفته رئيساً لمجلس الوزراء في ظلِّ شغورٍ رئاسي وحكومة بحكم المُستقيلة، أي منقوصة الصَّلاحيَّات، لاقتصار صلاحيَّاتها على تصريف الأعمال. وأسوأ ما في الأمر أن الحكومة مُفكَّكة وتفتقدُ للتَّضامن الوزاري في ما بين وزرائها، الذين لا يرقى أداءُ العديد منهم إلى حجم التَّحدِّياتِ الراهنة، ويبدو ذلك جليًّا بتخلُّفِ بعضِهم عن واجِباته، وتركيز اهتماماته على إرضاء المَرجعيَّة التي زكَّت تسميتِه وزيرًا وتلبيةِ رغباتها؛ وأغرب ما في أدائهم: انقلابُ بعضِهم على دولة الرئيس الذي اختارهم أو ارتضى أن يكونوا من عداد الوزارة التي شكَّلها، واستنكافهم عن الدِّفاع عن الحكومة ومواقفِ رئيسها الذي يُعتبرُ بحُكم الدُّستور الناطِق الرسمي باسمها، والمسؤول عن توجُّهاتها والسِّياسات التي تنتهِجُها. ووصلَ الأمرُ ببعضِهم إلى حدِّ إعادَةِ التَّموضع السياسي وتبني خياراتٍ انقلابيَّةٍ ابتغاءً لمنصبٍ سياسي موعود.

كُلُّ المُكونات الوطنيَّة يعلمون أو ينبغي عليهم أن يعلموا، أنه ليس بمقدور رئيس مجلس الوزراء، في ظِلِّ الظُّروفِ الدَّوليَّة والإقليميَّة والوطنيَّة الراهنة، فعل الكثير للحدِّ من التَّشنجات على جبهتنا الجنوبيَّة، ولا يمكنه التَّعامي عما يتعرَّض له الشَّعب الفلسطيني الشقيق، ورغم ذلك تراهم يمعنون في التَّقليل من شأن ما يبذله من جهد ويتَّخذه من مواقف وسطيَّة لتجنيب لبنان الانزلاق في أتون حرب مُدمِّرة مع العدو الإسرائيلي من دون التَّفريط بالسِّيادة اللبنانيَّة أو الانصياع للتَّهويلات الغربيَّة والتَّهديدات الصَّهيونيَّة، كما في سعيه لرأب التَّصدعات الدَّاخليَّة؛ وهو، رغم كل الافتئات عليه، يبقى صمَّامَ أمان يضمن، رغم الانقساماتِ، قيام السُّلطة الإجرائيَّة بالحدَّ الأدنى من واجباتها في تسيير أمور الدَّولة وتلبيةِ حاجيات الناس الأساسيَّة، ولولا الجهود التي يبذلها ومواقِفِهِ المُتوازِنَة لكان الوَضعُ داخليًّا أسوأ بكثير مما هو عليه اليوم لو تُرِك الأمرُ لوزراء غير مُبالين بالمخاطِرِ المُحدقةِ بلبنان.

وكأني ببعضِ المُكوِّناتِ السياسيَّة تسعى دائبةً لتقويض مكانة رئاسة الوزراء وتفريغها من صلاحيَّاتها، واقتصار مهام الحكومة ومجلس الوزراء على معالجة المسائل المطروحة ومقاربة المُستجدات يوماً بيوم؛ بحيث تجعل مهام رئيس مجلس الوزراء أشبه بمهامِ حاضنة أطفال، بإلهائه في مُناكفاتٍ وزاريَّة غير مُبرَّرة، وقضاء معظم وقته في ترضية خواطر وزرائه واسترضاء المرجعيات التي ذكَّت تسميتِهم وتقديم المُغريات لهم لتسيير أمور الدَّولة ومُعالجة المُشكلات المُستجدة ولو بالحد الأدنى، وتحفيزهم على حضور جلسات مجلس الوزراء والتوقيع على المراسيم والموافقة على بعض المقررات… الخ..
رئيس مجلس الوزراء الحالي بحنكته المعهودة وهدوئه الذي يدلّ عن حكمة في امتصاصِ التَّشنجات نجح إلى حدٍّ كبير في الحفاظ على انعقاد جلسات مجلس الوزراء، واتخاذ العديد من القرارات التي استوجبتها معالجات أمور مُلِحَّة، وإقرار وإصدار العديد من المراسيم الخاصَّة بمسائل لا تقبل التَّأجيل، كل ذلك للحدِّ من وقع الأزمات والتعامل مع المُستجدات، إلَّا أن ذلك يكلِّفُه الكثير من العناء لتأمين النَّصاب اللازم لانعقاد جلسات مجلس الوزراء بإقناع فلان أو علتان من الوزراء بالإلتزام بواجِبِ حُضور الجلسات والتَّصويت على المُقَّررات والتَّوقيع على المراسيم المُتخَذَة، كما يَستدعي منه بذل الكثير من الجهد والوقت لتقريب وجهات النَّظر بين المكونات السياسيَّة الممثلة في مجلس الوزراء، ولتسوية الخلافات التي تنشب بين الوزراء أو بينهم وبعض كبار الموظَّفين نتيجةَ تبادل الاتِّهامات وتقاذف المسؤوليَّات المُترتِّبَة عن التَّقصيرِ والإخفاقات.

من سوء طالع لبنان واللبنانيين أن تستمرَّ حُكومةٌ شُكِّلت لتولّى السُّلطة لأشهر مَعدودات «لحين إجراء الانتخابات النيابيَّة» بمهامها كحكومة تصريف أعمال رغم إجراء الانتخابات وحتى بعد انتهاء ولاية رئاسة الجمهوريَّة، في تدبيرِ شؤون السُّلطة الإجرائيَّة، قرابة السنتين والوضع يوحي بأنها باقية ليقضي الله أمراً مَقضياً، رغم أن تركيبتَها لم تعُد تتماشى مع متطلبات المرحلة، خاصَّة بعد أن انكشف سوء أداء عددٍ من الوزراء وكثرة إخفاقاتهم، وفشلِهم في تحقيق ولو إنجازٍ واحدٍ طيلة فترة توليهم الوزارة؛ ورغم ذلك، تراهم يستغلون الانقِساماتِ السِّياسِيَّة ليمارسوا أنماطًا مُقزِّزَة من الدَّلع السِّياسي التَّعطيلي وكأن الدَّولة في أحسن حالاتها، غير آبهين لمَخاطِرِ ما يدورُ من حولنا على السَّاحتين الدَّوليَّة والإقليميَّة.
بعض الوزراء المصونون المُحصّنون بمَرجعيَّاتهم السِّياسيَّة، ينبغي أن يُساءلون عن إخفاقِهم في إدارةِ شؤون الوزارات التي يتبؤونها، كما عن إخلالهم بواجباتهم الوزاريَّة لجهةِ تَسبُّبهم في إعاقةِ عملِ الحُكومة ككل، لكونهم ضالعين في تعطيل جلسات مجلس الوزراء بامتناعهم عن حضور جلساته دون مسوغ شرعي، ولإخلال بعضهم بمبدأ التَّضامن الوزاري، فبدلًا من وقوفهم خلف رئيس الحكومة ومؤازرته في وضع الحلول وبناء موقف حكومي موحَّد تجاه المُستجدات والتَّحديات والدِّفاع عنه، ترى بعضهم الآخر قد ذهب بعيدًا إلى حدِّ التَّواطؤ والإصرارِ على إدراج اسم رئيس الحكومة في قائمةِ مُعرقلي الانتخابات الرئاسيَّة على الرغم من علمهم أنه ليس لديه مونة على أيَّةِ كتلة نيابيَّة فيه، في حين أن المُكوِّن السِّياسي الذي ينتمون إليه يُشارك كُليًّا أو جزئيًّا في حضور الجلسات التَّشريعيَّة في مَجلِسِ النواب رغم تبنيهم لموقف دستوري قائل بأن المجلس النيابي في ظل الشغور الرئاسي هو هيئة ناخبة لا تشريعيَّة.

إن غَرَضنا من توصيف الوضع الحكومي على حقيقته ليس لمُجرَّدِ الإشارَةِ إلى سوء الأداءِ الوزاري، إنما بغرضِ تسليطِ الضَّوءِ على موضِعِ الخَللِ الأساسي الذي تَسبَّبَ ويتسبَّبُ في تعطيلِ السُّلطَةِ الإجرائيَّة، وشل الحكومات المتعاقبة منذ عقدين من الزَّمن وافتقادِها إلى روحيَّة التَّضامن الوزاري، وكثرَةِ الخِلافاتِ داخِلَ الحُكومَةِ، ويُردُّ هذا الخللُ إلى إصرار بعض السياسيين على أن يكون بعضُ المَرجعيَّاتِ الدستوريَّة شريكاً في تشكيل الحكومة إلى جانب الرئيس المكلف في تشكيلها، وهذا ما أدَّى إلى التَّأخير في تشكيلِ الحُكومات والحدِّ من إنتاجيَّتها؛ أما الحل فيكمن في إطلاق يد رئيس الحكومة في تشكيل حكومته وتسمية الوزراء فيها مقابل تحمُّلِه المَسؤوليَّة عن خياراته.
قد يرى البعضُ في الطرح المنوّه عنه أي «إطلاق يد رئيس الحكومة المكلف في تشكيل حكومته» استهدافاً لصلاحيَّات رئيس الجمهوريَّة، إنما الغرضُ منه السير بحلٍّ يضمنُ استقامة الأداء في السُّلطة التَّنفيذيَّة، كما التَّجانس الوزاري والتَّضامن الحكومي، وهو مبدأ دستوري في غاية الأهميَّة ينبغي الحرص عليه، لضمان فعاليَة الحكومة وتماسُكها، ولتفادي الخلل في أدائها، والحد من تَعطيل عمليَّة تشكيل الحكومات المُتعاقبةِ أو شلِّها، خاصَّة وأن الدُّستور اللبناني يُنيط هذه الصَّلاحيَةِ بالرئيس المُكلَّف وإن يكن بالتَّشاورِ مع رئيس الجُمهوريَّة، ذلك أن التَّشاورَ لا يعني أن الأخير شريكاً في هذه الصَّلاحيَّة، إنما من باب النُّصح للرئيس المُكلَّف باعتباره المسؤول حَصريًّا دستوريًّا وسياسيًّا عن نيل الحُكومة التي يُشكلها ثقةِ مَجلس النُّواب أو حجبها عنها لاحقاً على ضوء أدائها ومواقفها.
وهذا الطَّرح يدفعُنا إلى طرحٍ مُكمِّلٍ يهدف إلى تعزيز سُلطات رئيس الجمهوريَّة على نحو يُمكِّنُهُ من القِيامِ بالمَهام المناطَةِ به كرئيس للدَّولة ورمزٍ لوحدةِ الوَطن والسَّاهر على احترام الدُّستور، وبالتالي الضَّامن لحسن سير العمل في المؤسَّسات الدُّستوريَّة والمَرافقِ العامَّة والقِطاع العام، يقومُ على تَخويلِ الرَّئيس مُنفرداً صلاحيَة طرح الثِّقة بالحُكومة أمام مجلسِ النُّواب لمرَّةٍ واحدةٍ بعد تَشكيلها يُمارِسُه بقرارٍ مُعلَّلٍ عندما يشاء خلال فترة قيامها بمهامها، هذا بالإضافة إلى منحه صلاحية توجيه تكاليف خطيَّة عبر رئاسة مجلس الوزراء لهيئات الرَّقابة، يوعِزُ إليها كلٌّ ضمن اختصاصه القيام بمهام ظرفيَّة مُعيَّنة: رقابيَّة أو تفتيشيَّة أو تحقيقية، على أن ترفعَ هذه المراجِعُ إليه نسخةً عن كل من التَّقارير والمحاضر المنظمة بنتيجةِ ما خلصت إليه بنتيجة تلك المهام تسلسلاً عبر رئاسة مجلس الوزراء، وللرئيس أن يعرُضَها أمام مجلس الوزراء لمعالجةِ مواضِعِ الخللِ وتقويمِ الأداءِ حيث لَزِمَ الأمر.
إن هذا الحل ينطوي على طرحين متكاملين متوازيين متوازنين، لتفادي المزيد من التَّفكُّك في أوصالِ الدَّولة ومؤسَّساتها الدُّستوريَّة عامَّة وبخاصَّة تحسين مستوى الأداء في السُّلطة الإجرائيَّة، وضمان فاعلية الحكومات المتعاقبة على نحو يخلِّصنا من المتاهاتِ التي نتخبَّط فيها دون طائل، نتيجة النَّكد السياسي القائم على المناحرات والنكايات والابتزاز بغرض تحقيق مآرب خاصَّة.