Beirut weather 23.41 ° C
تاريخ النشر April 21, 2025
A A A
مشروع قانون إصلاح المصارف: هل ينجح في تفادي استخدام المال العام؟
الكاتب: هدى علاء الدين - لبنان الكبير

في ظل الانهيار العميق الذي أصاب القطاع المصرفي في لبنان منذ العام 2019، يُطرح اليوم مشروع قانون “إصلاح وضع المصارف وإعادة تنظيمها” كجزء من حزمة إصلاحات مالية منتظرة. القانون المقترح لا يقتصر على معالجة تقنية للوضعية المتعثرة لبعض المصارف، بل يسعى الى إعادة هيكلة النظام المصرفي برمّته، وفق معايير جديدة توازن بين حماية المودعين، تحقيق الاستقرار المالي، ومساءلة المسؤولين.

في الشكل، يستهل مشروع القانون تعريفات دقيقة للمصطلحات الأساسية المتكررة في سياقه، مثل “مصرف لبنان”، “الهيئة المصرفية العليا”، “لجنة الرقابة على المصارف” و”الأموال الخاصة”، بهدف توحيد الفهم القانوني لهذه المصطلحات وتجنب أي لبس في تطبيقه. يوضح القانون أن الأحكام الخاصة بإصلاح المصارف والتصفية تصبح نافذة عند دخول قانون “إعادة الانتظام المالي” حيز التنفيذ، ما يربط هذا القانون بحزمة إصلاحات مالية أوسع. يهدف المشروع إلى تعزيز استقرار النظام المالي، وضمان استمرارية وظائف المصارف الأساسية، وحماية ودائع العملاء، وتقليص استخدام المال العام في الإنقاذ المالي. يشمل نطاقه المصارف اللبنانية والأجنبية وفروعها في لبنان والخارج، مع مراعاة القوانين المحلية. كما يعيد تشكيل الهيئة المصرفية العليا، ويحدد آليات لضمان استقلالية أعضائها ومنع تضارب المصالح.

أدوات إصلاح وضع المصرف
يجوز للهيئة المصرفية العليا أن تقرر تطبيق أي من أدوات إصلاح وضع المصرف التالية على حدة أو مع غيرها من الأدوات:

– الإنقاذ الداخلي bail-in من خلال تخفيض قيمة الأموال الخاصة والمطلوبات و/أو تحويل المطلوبات إلى أدوات رأسمالية.

– إعادة رسملة المصرف من المساهمين أو من المصرف الأم أو من خلال مستثمرين جدد.

– تحويل بعض أو كامل موجودات المصرف وحقوقه ومطلوباته إلى مؤسسة أخرى.

– إجراء دمج مع مصرف آخر.

– تطبق أدوات إصلاح وضع المصرف كما هو محدد في قرار إصلاح الوضع الصادر عن الهيئة المصرفية العليا بخصوص كل مصرف.

المبادئ العامة التي ترعى عملية إصلاح وضع المصرف
تحدد المادة 14 المبادئ العامة التي تحكم عملية إصلاح وضع المصرف، مؤكدةً ضرورة احترام تراتبية الخسائر بين الأموال الخاصة والدائنين، بحيث تتحمل الأموال الخاصة كامل الخسائر أولاً، تليها المطلوبات الأخرى بصورة متناسبة. كما تنص على المساواة في المعاملة بين المساهمين والدائنين ضمن المرتبة نفسها، مع الالتزام بحماية المودعين وفق أحكام قانون معالجة الفجوة المالية. وتمنح المادة الحق للدائنين والمساهمين بتقديم مراجعات أمام المحكمة المختصة خلال مهلة ثلاثة أشهر في حال تبيّن أن وضعهم المالي بعد الإصلاح هو أسوأ من وضعهم المفترض في حال التصفية، مع إمكان الحصول على تعويض. وتُجيز المادة استخدام أداة الإنقاذ الداخلي (Bail-in) على أساس المودع الواحد، وصولاً إلى إعادة التزام المصرف بمتطلبات كفاية رأس المال.

صلاحيات لجنة الرقابة على المصارف
يبقى المصرف الذي يخضع لإصلاح الوضع تحت إشراف لجنة الرقابة على المصارف، التي تُمنح، إضافة إلى صلاحياتها بموجب هذا القانون والقوانين الأخرى، المهام التالية: إعداد تقييم مؤقت للمصرف أو تكليف مقيم مستقل بذلك، رفع تقرير بنتائج التقييم وتوصية إلى الهيئة المصرفية العليا بشأن التصفية أو الإصلاح، مع اقتراح التدابير المناسبة، متابعة تنفيذ عملية الإصلاح وتقديم تقارير دورية حول مدى الالتزام بقرارات الإصلاح، تقييم أهلية المساهمين الجدد وأعضاء مجلس الإدارة والإدارة العليا، مراجعة تقارير المدير المؤقت وتقديم الملاحظات عند الحاجة، إعداد خطة إصلاح لكل مصرف وإحالتها على الهيئة المصرفية العليا، إصدار تعليمات ومتطلبات تقنية لضمان حسن التطبيق، الاطلاع على كل المعلومات اللازمة لتنفيذ مهامها، وترفع اللجنة تقريراً شاملاً إلى الهيئة المصرفية العليا.

عملية التصفية
تنطلق عملية التصفية لحماية الاستقرار المالي وتعظيم المنفعة للدائنين. في حال قرر المصرف التصفية، يتعين عليه التقدم بطلب للهيئة المصرفية العليا، موضحاً أن موجوداته تكفي لتغطية التزاماته. يمكن للهيئة شطب المصرف من لائحة المصارف في حالتين: الأولى قبل بدء الإصلاح استناداً الى تقرير لجنة الرقابة، والثانية بعد بدء الإصلاح إذا استمر التعثر. يتم تعيين مصف أو لجنة تصفية، وتُدار العملية وفقاً لأحكام القانون. إذا اشتبه بتورط المسؤولين في جرائم، يمكن اتخاذ تدابير احترازية مثل منع التصرف بالأموال والحجز الاحتياطي، مع ملاحقة المسؤولين قانونياً.

الأحكام الخاصة
تنص المادة 27 على أنه يجب على جميع الدائنين (باستثناء المودعين) التصريح عن ديونهم وحقوقهم خلال ثلاثة أشهر من نشر قرار التعيين في الجريدة الرسمية. في حال التخلف عن التصريح، يسقط حقهم في المطالبة. أما المودعون، فيحق لهم الاطلاع على معلومات ودائعهم.

المادة 28 تؤكد التزام المؤسسة الوطنية لضمان الودائع بتغطية الودائع المضمونة في حال تصفية أي مصرف وفقاً لقوانين ستصدر لاحقاً.

المادة 29 تشير إلى إنشاء محكمة خاصة في بيروت للنظر في الطعون وحل النزاعات بين الدائنين والمصفي، وتتيح للمحكمة النظر في قضايا الحجز الاحتياطي المؤقت. قرارات هذه المحكمة يمكن الطعن فيها أمام محكمة الاستئناف خلال 30 يوماً.

قانون السرية المصرفية
لأغراض تطبيق أحكام هذا القانون، تُرفع السرية المصرفية بشكل كامل أمام الجهات الرقابية والرسمية المعنية، وهي: الهيئة المصرفية العليا، مصرف لبنان، لجنة الرقابة على المصارف، المدير المؤقت، المصفي أو لجنة التصفية، المؤسسة الوطنية لضمان الودائع، المقيمون المستقلون وشركاتهم وشركاؤهم والمتعاقدون معهم، وأي مفوض مراقبة يُكلَّف من قبل لجنة الرقابة على المصارف. كما يمكن رفع السرية المصرفية أمام جهات أخرى، فقط إذا قررت الهيئة المصرفية العليا أن ذلك ضروري ومبرر لأسباب مشروعة تتعلق بتنفيذ هذا القانون.

البنية القانونية والتنظيمية المقترحة
يضع مشروع القانون المقترح أسساً تنظيمية جديدة للنظام المصرفي اللبناني، عبر إعادة تعريف أدوار السلطات النقدية والمصرفية، بما يواكب مفاهيم حديثة في إدارة الأزمات والحوكمة. ويشير ربطه بقانون “إعادة الانتظام المالي” إلى أن الاصلاح المصرفي لا يمكن أن ينجح بمعزل عن معالجة المالية العامة والخلل البنيوي في الاقتصاد اللبناني.

وعلى الرغم من وضوح أهداف القانون، إلا أن تحقيقها يتطلب توازناً دقيقاً بين حماية حقوق المودعين والدائنين واستدامة المصارف. كما أن تقليص دور المال العام في معالجة الخسائر يحمّل القطاع الخاص، لا سيما حملة السندات والمودعين، كلفة كبيرة ستبقى موضع جدل سياسي واجتماعي.

الأدوات المقترحة كـ Bail-in وإعادة الرسملة والدمج وتحويل الأصول، معروفة دولياً، لكن استخدامها في لبنان يطرح تحديات نظراً الى انعدام الثقة وتجميد الودائع منذ سنوات. يبقى الـ Bail-in الأكثر إثارة للجدل، كونه ينقل عبء الخسائر إلى المساهمين والدائنين، وقد يُعتبر قاسياً في ظل غياب ضمانات فعلية.

ومع منح الدائنين حق الطعن وتوفير آلية “قضاء طوارئ مصرفي”، يبقى نجاح هذه الآليات مرهوناً بإرادة سياسية واضحة، واستقلالية القضاء، وشفافية التنفيذ. كما أن استقطاب رساميل جديدة يبدو صعباً ما لم تُرفق بإصلاحات جذرية وضمانات سيادية أو دولية.

ومن اللافت أن مشروع القانون يكرّس مبدأ الحد من استخدام المال العام في إنقاذ المصارف، في محاولة واضحة لتفادي تكرار أخطاء سابقة حيث استُخدم المال العام لتعويض خسائر ناتجة عن سوء إدارة خاصة. يشدد المشروع على أن أي عملية إنقاذ أو إعادة رسملة لا يجب أن تأتي من الخزينة، بل من خلال مساهمات المساهمين الحاليين أو الجدد، أو من خلال أدوات داخلية مثل تخفيض المطلوبات وتحويلها إلى أسهم. في جوهره، يعكس ذلك توجّهاً ضمنياً نحو تحميل القطاع الخاص، المساهمين والدائنين، الجزء الأكبر من كلفة الخسائر. وهذا النهج يُعتبر، من حيث المبدأ، متسقاً مع المعايير الدولية التي ترفض استخدام المال العام لإنقاذ مؤسسات خاصة، لا سيما في الأنظمة التي تسعى إلى ترسيخ مبدأ “عدم إنقاذ من لا يُصلح”. لكن، في السياق اللبناني، يصبح هذا التوجّه إشكالياً لعدة أسباب. أولاً، لأن الدولة نفسها كانت طرفاً في إدارة الأزمة، وثانياً، لأن تحميل الخسائر للقطاع الخاص، وخصوصاً للمودعين الصغار، من دون إصلاح شامل للمالية العامة ومحاسبة جدّية للمسؤولين، قد يُنظر إليه كنوع من التنصّل من المسؤولية لا كخطوة إصلاحية. وبالتالي، قد يبدو أن الدولة تسعى إلى “الهروب من الكلفة السياسية” للأزمة، من خلال تأطيرها كأزمة مصرفية فقط، وليست أزمة نظام سياسي-مالي متكامل. وهذا ما يجعل من مشروع القانون خطوة ناقصة ما لم تُستكمل بتشريعات موازية تُحمّل الدولة مسؤوليتها التاريخية، وتعيد توزيع الخسائر بصورة عادلة، لا تُفرّغ العدالة من مضمونها.