Beirut weather 17.41 ° C
تاريخ النشر March 16, 2024
A A A
محاكم بلجيكية وإسبانية وبريطانية ونيوزيلندية وهولندية تلاحق إسرائيليين: ضغطٌ قضائيّ دولي غير مسبوق على كيان الاحتلال
الكاتب: لونا فرحات - الأخبار

 

يعدّ مبدأ الاختصاص القضائي العالمي إحدى الأدوات الأساسية لضمان منع وقوع انتهاكات للقانون الدولي الإنساني ومعاقبة مرتكبيها عبر فرض عقوبات جنائية عليهم. وملاحقة هؤلاء تتم على مستويين: المستوى الدولي ويتمثل بالمحكمة الجنائية الدولية أو المحاكم الجنائية الخاصة، والمستوى الثاني تتولاه المحاكم الوطنية، وكلاهما يكملان بعضهما بعضاً. فالمحكمة الجنائية الدولية لن تقوم بمهماتها إلّا على نحو تكميلي، أي عندما تتعذّر إقامة العدل على الصعيد الوطني. إذ سيظلّ العبء الأساسي لمقاضاة الأشخاص الذين يُنسب إليهم ارتكاب تلك الجرائم، ملقى على عاتق النظم القانونية الوطنية عبر ممارستها لما يُعرف باسم الولاية القضائية العالمية التي تستند حصراً إلى طبيعة الجريمة. وبناء عليها، تستطيع المحاكم الوطنية أن تمارس الولاية القضائية العالمية لملاحقة الجرائم الخطيرة المقررة بموجب القانون الدولي والمعاقبة عليها، وبالتـالي ردعها، دفاعاً عن المصالح والقيم الأساسية للمجتمع الدولي ككل. ويعترف القانون الدولي بالدور الحاسم الذي تلعبه النظم القانونية الوطنية في وضع حدّ لحالات الإفلات من العقاب ويعتبرها وسيلة حاسمة لتحقيق العدالة. يُعرّف مبدأ الاختصاص العالمي للمحاكم الوطنية بأنه مبدأ قانوني يسمح لدولة أو يطالبها بإقامة دعوى قانونية جنائية في ما يختص بجرائم معينة، بصرف النظر عن مكان ارتكاب الجريمة وجنسية مرتكبيها أو الضحية. وبموجبه تستطيع الدول ملاحقة أي شخص ارتكب جريمة دولية خارج حدودها ومحاكمته أمام محاكمها الوطنية، سواء أكان من مواطنيها أم من الأجانب. وتشير منظمة العفو الدولية إلى أن 163 دولة من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة البالغ عددها 193 «يمكنها ممارسة الولاية القضائية العالمية على جريمة واحدة أو أكثر بموجب القانون الدولي أو بموجب القانون الوطني. (منظمة العفو الدولية، الولاية القضائية العالمية: مسح أولي للتشريعات حول العالم – تحديث 2012).
فعلى سبيل المثال، يعرف قانون الجرائم الدولية لعام 2000 في نيوزيلندا جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية وفقاً لاتفاقيات جنيف ونظام روما الأساسي، وينص القسم 8 (1) (ج) منه على جواز محاكمة الأفراد في نيوزيلندا عن هذه الجرائم بغض النظر عن «(1) جنسية الشخص المتهم؛ أو (2) ما إذا كان أي فعل يشكل جزءاً من الجريمة قد وقع في نيوزيلندا أم لا؛ أو (3) ما إذا كان الشخص المتهم موجوداً في نيوزيلندا أم لا وقت وقوع الفعل الذي يشكل الجريمة أو في وقت اتخاذ قرار لاتهام الشخص بارتكاب جريمة. وتعدّ كندا مثالاً آخر على الدولة التي توفر ممارسة محلية للولاية القضائية العالمية. وفي قانون الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب لعام 2000 بالنسبة إلى الإبادة الجماعية أو الجرائم ضد الإنسانية أو جرائم الحرب على النحو المحدد في القانون، تنص المادة 9 (1) منه على ما يلي: يجوز بدء الإجراءات في أيّ قسم إقليمي في كندا في ما يتعلق بتلك الجرائم «|التي يُزعم أنها ارتكبت خارج كندا والتي يمكن محاكمة الشخص عليها بموجب هذا القانون (…) سواء أكان الشخص موجوداً في كندا أم لا».

الصلاحية العالمية للمحاكم الوطنية
القانون الدولي الجنائي جعل الصلاحية القضائية العالمية إلزامية في عدد من الجرائم، كما قرّر عدم سقوطها بالتقادم وضرورة ملاحقتها من قبل الدول. وهذه الجرائم هي:
1- جرائم الحرب: حدّدت اتفاقيات جنيف لعام 1949 المتعلقة بالنزاعات المسلحة الدولية، في موادها (49، 50 ،129 ،146 المشتركة)، والمادة (85) من البروتوكول الأول لعام 1977 الانتهاكات الجسيمة، إضافة إلى ما جاء في المادة الثامنة من نظام روما للمحكمة الجنائية الدولية التي نصّت على عدد من الانتهاكات التي تقع زمن النزاعات المسلحة غير الدولية، والتي تعد جميعها جرائم حرب.
فقد نصت المادة 146 من اتفاقية جنيف الرابعة لحماية المدنيين على «تعهد الأطراف السامية المتعاقدة بأن تتخذ أي إجراء تشريعي يلزم لفرض عقوبات جزائية فعّالة على الأشخاص الذين يقترفون أو يأمرون باقتراف إحدى المخالفات الجسيمة لهذه الاتفاقية، المبينة في المادة التالية. ويلتزم كل طرف متعاقد بملاحقة المتهمين باقتراف مثل هذه المخالفات الجسيمة أو بالأمر باقترافها، وبتقديمهم إلى محاكمة، أياً كانت جنسيتهم. وله أيضاً، إذا فضّل ذلك، وطبقاً لأحكام تشريعه، أن يسلمهم إلى طرف متعاقد معني آخر لمحاكمتهم ما دامت تتوافر لدى الطرف المذكور أدلة اتهام كافية ضد هؤلاء الأشخاص.
وحددت المادة 147 من ذات الاتفاقية المخالفات الجسيمة، وهي التي تتضمن أحد الأفعال التالية إذا اقترفت ضد أشخاص محميين أو ممتلكات محمية بالاتفاقية: القتل العمد، والتعذيب أو المعاملة اللاإنسانية، بما في ذلك التجارب الخاصة بعلم الحياة، وتعمد إحداث آلام شديدة أو الإضرار الخطير بالسلامة البدنية أو بالصحة، والنفي أو النقل غير المشروع، والحجز غير المشروع، وإكراه الشخص المحمي على الخدمة في القوات المسلحة في الدولة المعادية، أو حرمانه من حقه في أن يحاكم بصورة قانونية وغير متحيزة وفقاً للتعليمات الواردة في هذه الاتفاقية، وأخذ الرهائن، وتدمير الممتلكات واغتصابها على نحو لا تبرّره ضرورات حربية وعلى نطاق كبير بطريقة غير مشروعة وتعسفية.
2- الجرائم ضد الإنسانية: وفقاً لما جاء في المادة السادسة من نظام المحكمة الجنائية الدولية.
3- جريمة إبادة الجنس: وفقاً لما جاء في المادة الخامسة من نظام المحكمة الجنائية.
وثمة مواثيق دولية أخرى تنص على التزام مماثل على الدول الأطراف بفرض شكل من أشكال الولاية القضائية العالمية في محاكمها في ما يتعلق بالانتهاكات الخطيرة للقواعد المنصوص عليها في هذه المواثيق. منها، على سبيل المثال، اتفاقية لاهاي لعام 1954 لحماية الممتلكات الثقافية في حالة النزاع المسلح وبروتوكولها الثاني لعام 1999، واتفاقية عام 1984 لمناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، والاتفاقية الدولية لعام 2006 بشأن حماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري.

ملاحقة «إسرائيليين» في المحاكم الوطنية
في كانون الثاني/يناير 2024، أعلن مكتب المدعي العام السويسري الفدرالي عن تلقيه شكاوى ضد رئيس الكيان الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ أثناء تواجده في مؤتمر دافوس في سويسرا، تقدمت بها مجموعة تسمي نفسها «الإجراءات القانونية ضد الجرائم ضد الإنسانية». وصرّحت هذه المجموعة بأنها تأمل في فتح تحقيق جنائي بالتوازي مع الإجراءات المتخذة أمام محكمة العدل الدولية، وأنها «على قناعة بأن سويسرا ملزمة بإجراء تحقيق». وقدّمت المجموعة شكاوى أمام مدعين فدراليين وسلطات كانتونات بازل وبرن وزيوريخ. وأعلن الادّعاء العام أنه سيتم النظر في الشكاوى من دون إعطاء مزيد من التفاصيل. وتعتبر سويسرا من بين أولى الدول التي ضمت تشريعاتها الداخلية مواد قانونية تتيح ملاحقة مرتكبي جرائم الحرب، وقد تبنّت قانوناً عام 2009 يهدف إلى تعزيز ممارسة الولاية القضائية العالمية، وبجعل نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية بمنزلة قانون وطني، والهدف هو مكافحة الإفلات من العقاب لكلّ من مرتكبي جرائم الحرب والإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية. ويعتبر قانونها من بين القوانين المرنة في هذا المجال، إذ لا يتطلّب توافر ارتباط وثيق بين المشتبه به والدولة لتقوم بأعمال التحقيق، بل يكفي أن يكون الشخص قد خالف القواعد القانونية الواردة في نظام روما الأساسي لتتم ملاحقته. ويتيح القانون توقيف المشتبه به بمجرد دخوله الأراضي السويسرية من دون اشتراط أن يكون مقيماً أو له أيّ عقار داخل الدولة.
منذ 2005 عمدت وزارات القضاء والخارجية والأمن الإسرائيلية إلى القيام بتحركات قانونية وسياسية للتصدّي للدعاوى التي ترفع في أوروبا ضدّ مسؤولين إسرائيليين

الشكوى المقدمة ضد رئيس الكيان الصهيوني لم تكن الأولى أمام القضاء السويسري. فقد نُظر سابقاً في دعاوى تقدمت بها منظمات حقوقية معنية بحقوق الفلسطينيين في سويسرا ضد رئيس الوزراء السابق إيهود أولمرت بتهمة ارتكاب جرائم حرب خلال عملية «الرصاص المصبوب» في قطاع غزة عام 2008. وفي تموز 2019، وحرصاً على تجنّب الاعتقال بتهمة ارتكاب جرائم حرب، ألغى أولمرت زيارة له إلى سويسرا بعدما تلقّت وزارتا الخارجية والعدل الإسرائيليتان بياناً من السلطات السويسرية يفيد بأنه سيتم استجوابه للاشتباه في ارتكابه جرائم حرب. ومن بين السوابق القضائية ضد مسؤولين إسرائيليين في بعض الدول الأوروبية، الدعاوى التي رفعت أمام:
• القضاء البلجيكي ضد رئيس الوزراء السابق أرييل شارون في حزيران 2001.
• القضاء البريطاني ضد اللواء المتقاعد دورون ألموغ في أيلول / سبتمبر 2005. واضطر دورون إلى قضاء بعض الوقت في الطائرة التي كانت تقلّه من تل أبيب إلى لندن قبل أن يعود أدراجه من حيث أتى، لأن محكمة بريطانية أصدرت أمراً باعتقاله بتهمة ارتكاب مخالفات جسيمة لاتفاقيات جنيف لسنة 1949.
• القضاء النيوزلندي ضد رئيس هيئة الأركان موشيه يعلون في تشرين الثاني/ نوفمبر 2006.
• القضاء الإسباني ضد بنيامين بن أليعيزر ودان حالوتس في شباط/ فبراير 2009.
• في 29/9/2009 كاد أن يصدر أمر باعتقال رئيس الوزراء السابق إيهود باراك أثناء زيارته لبريطانيا بدعوة من حزب العمل. إذ أرسلت محكمة بريطانية كتاباً إلى الحكومة تطالب بتوضيح طبيعة الزيارة وفي ما إذا كانت رسمية أم شخصية، فجاء التوضيح أنها رسمية، ما يعني تمتّع الزائر بحصانة ديبلوماسية.
• في 14/12/2008، أصدرت محكمة بريطانية أمراً باعتقال وزيرة الخارجية السابقة تسيبي ليفني بتهمة ارتكابها جرائم حرب فألغت زيارتها للندن.
• في أيار 2008، قُدّم طلب إلى محكمة هولندية لإصدار أمر باعتقال رئيس الشاباك السابق عامي أيالون بتهمة تعذيب فلسطيني أثناء اعتقاله. ولم يتحرّك المدعي العام فوراً بسبب تأخّر صدور قرار مجلس المدعين العامين حول ما إذا كان إيالون يتمتع بالحصانة له أم لا. وقد قرر المجلس بأن الحصانة لا تشمله، إلا أنّ القرار جاء بعد 21 يوماً من الطلب كان إيالون قد غادر الأراضي الهولندية خلالها.
• مطلع عام 2009، قبلت محكمة إسبانية دعوى ضد سبعة قادة إسرائيليين بينهم بنيامين بن اليعازر وموشيه يعلون ودان حالوتس وغيورا إيلان. وحذر المستشار القضائي في وزارة الدفاع الإسرائيلية مسؤولين من احتمال تعرّضهم للاعتقال إذا زاروا إسبانيا، بعد دعوى قضائية قدمها مركز حقوقي فلسطيني طالباً بمحاكمتهم بتهمة ارتكاب مجزرة في غزة عام 2002. وعُلم أن المدّعي العام طلب من المحكمة الاستفسار من تل أبيب عن حيثيات القضية. وتعود فصول المجزرة إلى تموز 2002 في غزة، عندما كان سكان حي الدرج المكتظ على موعد مع قنبلة تزن أكثر من نصف طن أطلقتها طائرة إف 16 إسرائيلية فوق بيوتهم. قتلت الغارة قائد كتائب عز الدين القسام صلاح شحادة إضافة إلى 18مدنياً بينهم ثمانية أطفال أحدهم بعمر الشهرين، فضلاً عن تدمير 11 منزلاً بشكل كلي.