Beirut weather 17.41 ° C
تاريخ النشر April 19, 2018
A A A
مجلس الأثرياء… ورجال الأعمال
الكاتب: غادة حلاوي - الأخبار

قانون الانتخاب الجديد يمنح أفضلية لكبار المتموّلين من خلال سقف الإنفاق.
*
جرت العادة في «الديموقراطيات الحديثة» أنّ مَن يشرّع قانون الانتخاب يضع في صلب أسبابه الموجبة كيفية الحد من حضور المال الانتخابي والرشوة، فضلاً عن الفصل بين وظيفة النائب ـــ المُشرّع وبين عمله الخاص. غير أن قانون الانتخاب الجديد، أفسح، بمضمونه الأرثوذكسي التفضيلي، أمام المقتدرين مالياً حجز مقاعدهم على لوائح الأحزاب، وهذا يعني أن المجلس الجديد سيضيق برجال الأعمال.

تغيرت صورة مجلس النواب منذ عام 1992. ضمر تدريجياً حضور المشرّعين، وتقدم حضور آخرين. كان بمقدور «وليّ الأمر» السوري، بشراكته مع سياسيين لا يتعدّون أصابع اليد الواحدة، أن يقرر مسبقاً أغلبية الوجوه. لا بأس بجوقة زجلية نيابية من هنا، كما ببضعة متموّلين من هناك.

قبل ذلك، كانت معظم الأحزاب والتيارات العقائدية تعتمد على التبرعات لتمويل حملات مرشحيها للانتخابات، فيما كانت الأحزاب والشخصيات التقليدية تستعين بميسوري الحال. اليوم، ارتفع «سعر» المرشح ونفقات «التسويق» وأصوات الناخبين، بما يتعدى قدرة الأحزاب على تمويلها، فصارت أولوية المتمولين تتفوق على ما عداها.

أبرز رجال الأعمال
في السابق، كان الزعيم السياسي أو رئيس اللائحة الانتخابية يستعين بمرشح «متمكّن مالياً» لتمويل حملته. وحين رشّح كمال جنبلاط المتموّل سالم عبد النور للانتخابات عن الشوف في خمسينيات القرن الماضي، كان يجيب سائليه عمن يموّل لائحته: «إنه سالم (عبد النور)». ومن تتوقع أن يكون الراسب الأول؟ يجيب جنبلاط: «إنه سالم (عبد النور) أيضاً».

حادثة يذكرها أحد مجايلي كمال جنبلاط للقول إن الاستعانة بمتموّلين ليست أمراً طارئاً على الحياة البرلمانية في لبنان. «سالم الأمس»، هو «نعمة طعمة اليوم»، مموّل لوائح وليد جنبلاط في الشوف وعاليه. ويكاد يوجد «سالم» و»طعمة» في معظم الدوائر الانتخابية في يومنا هذا.

لطالما لجأت شخصيات وزعامات تقليدية الى المرشحين الأثرياء. يروي النائب السابق ادمون رزق أن «الزعيمين الجزينيين مارون كنعان وجان عزيز أتيا في إحدى المرات بالمرشح المتمول سيبوه صحناوي من بيروت الى جزين، وفي الدورة الثانية، استعانا بالمرشح الكاثوليكي بيار فرعون من خارج المنطقة للغاية ذاتها (التمويل)». يتوقف رزق عند مفهوم النيابة الذي كان قائماً على خدمة الناس، وبالتالي، «كان اختيار المرشحين يقع بالدرجة الأولى على وجهاء المنطقة ومقدمي الخدمات لأهلها من الأطباء والمدرّسين والمحامين، أمثال ألبير مخيبر وبيار دكاش اللذين فازا بالانتخابات بفضل خدماتهما». كان المال حاضراً في كل انتخابات نيابية، «لكن ترشيح المتمولين شكل استثناءً وليس قاعدة، بعكس ما يحصل حالياً»، وفق شهادة رزق.

عملياً، تحوّل الاستثناء الى قاعدة مع دخول الرئيس رفيق الحريري الى النادي السياسي من بوابة رئاسة الحكومة للمرة الأولى عام 1992، ليغدو صاحب أكبر تكتل نيابي في انتخابات عام 1996 (13 نائباً).

تدريجياً، فتحت ظاهرة رفيق الحريري شهية الكثير من أقرانه الأثرياء للدخول الى جنة السلطة (التشريعية والتنفيذية). نموذج عصام فارس وآل ميقاتي ومحمد الصفدي في الشمال. نعمة طعمة في الشوف. آل جابر في النبطية. أنور الخليل في حاصبيا، موريس فاضل ثم نجله روبير في طرابلس، عصام صوايا في جزين، على سـبيل المثال لا الحصر.

يقول أحد نواب كتلة رفيق الحريري في تسعينيات القرن الماضي إن الحريري الأب «غيّر قواعد اللعبة رأساً على عقب، فقد كان المفتاح الانتخابي لا يبتغي من الزعيم البيروتي سوى بضع خدمات ووظائف والقليل من المال. مع رفيق الحريري، فتحت الحقائب والديوانيات. أمسك الحريري بمفاتيح العاصمة وهزم سليم الحص وكل من تجرّأ على مقارعته في الانتخابات حتى عام 2000».

يضيف:« مع رفيق الحريري، وجدنا أنفسنا أمام تسويق انتخابي قائم على صرف مبالغ طائلة (إعلانات الصحف والمجلات والتلفزيونات والإذاعات واللوحات الإعلانية في الطرقات) والمهرجانات الانتخابية والماكينات والمعلوماتية والهواتف الخلوية)». يتابع النائب المستقبلي السابق أن الماكينة الانتخابية «كانت تتصل بنا لتبلغنا قرار ترشيحنا وتفاصيل الحملة الانتخابية ومواعيد إطلالاتنا الإعلامية والميزانية المرصودة لكل واحد منا».

شكلت انتخابات 1992 تحولاً مفصلياً في الحياة البرلمانية اللبنانية، حيث انتخب 106 نواب جدد من أصل 128 نائباً، وبقي 19 نائباً فقط من برلمان 1972، فكانت نسبة التغيير 82.81 في المئة.

زلزال الحريري يحدث انقلاباً
شكلت مادة الانتخابات في عام 2005 محور خلاف أساسي بين رفيق الحريري والقيادة السورية، وخصوصاً في ضوء الظاهرة التي سميت آنذاك «الودائع السورية» والمقصود بها أسماء المرشحين الذين كان يريد السوريون تسميتهم في لوائح الحريري، وخصوصاً في العاصمة.

مع اغتيال رفيق الحريري في شباط 2005، انقسم البلد بين 8 و14 آذار، فانتقل التمويل من مرحلة الأفراد الى مرحلة دول غذّت الانقسامات أو دعمت هذا الفريق أو ذاك، لغايات سياسية واضحة. في هذا السياق، تولت السعودية ترتيب البيت الداخلي لفريق 14 آذار مع أول استحقاق انتخابي تلا زلزال 14 شباط. في تلك السنة، بلغ التمويل السعودي للانتخابات أوجه. خصّصت المملكة حساباً مصرفياً مفتوحاً لسفيرها في لبنان عبد العزيز خوجة، استفادت منه قوى 14 آذار، وبعض الشخصيات التي كانت تقف في الوسط، فضلاً عن مؤسسات إعلامية عديدة.

في انتخابات عام 2009، كانت الغلبة للمال الخارجي، حسب خبير انتخابي يشير إلى أن السعوديين «أوكلوا في تلك الانتخابات مهمة صرف الأموال إلى سعد الحريري، فيما حاذر الإيرانيون أي تورط مباشر، تاركين مهمة التمويل حصرية بيد «حزب الله» الذي كان قد وضع موازنات خاصة بحلفائه في كل البيئات منذ عام 2006».

* سيضمّ المجلس الجديد ما يقارب 43% من المتموّلين أي أقل من نصف النواب

ولأن الدول اقتصدت في مصاريفها وصار لكل منها شروطها وحساباتها، فضلاً عن رغبة أطراف داخلية، وخصوصاً «تيار المستقبل» في التمايز، برزت في انتخابات 2018 ظاهرة ترشيح المتموّلين، إذ يعمد بعض الأحزاب إلى استقبال متموّلين على لوائحها، مشترطة عليهم تقاسم تكاليف الحملة الانتخابية.

«الدولية للمعلومات»: سمة المتمولين
تفيد دراسة «الدولية للمعلومات» بأن 25 في المئة من النواب الحاليين (مجلس 2009) هم من المتموّلين، يضاف اليهم 18 في المئة من المرشحين الجدد، ما يعني أن المجلس الجديد سيضم (في حال فوز المرشحين) ما يقارب 43 في المئة من المتمولين، أي أكثر من ثلث مجلس النواب (مرشح واحد من كل ثلاثة يملك ثروة مالية)، وهذه السمة ستكون هي الطاغية على حساب التشريع والرقابة. وهذا الأمر سيفرض تغييراً تدريجياً في مجلس النواب، من مجلس مشرّعين الى رجال أعمال ومتمولين، بحيث «صارت النمرة الزرقاء وجاهة وتشبيحاً»، بحسب الباحث الانتخابي في «الدولية للمعلومات» محمد شمس الدين. ويرى أن «الخلل يعود إلى قانون الانتخاب الجديد الذي جاء مفصّلاً على قياس رجال المال والأعمال، ولا سيما لجهة رسم الترشيح المحدّد بمبلغ 8 ملايين ليرة، والذي لا يمكن للمرشح استرجاعه في أي حال من الأحوال، في حين أن القانون القديم كان يفرض مليونَي ليرة رسماً للترشيح و6 ملايين ليرة للضمان، وكان يمكن للمرشح استرجاع المبلغ إذا فاز بالنيابة أو تراجع عن الترشح أو حصل على نسبة 20 في المئة من أصوات المقترعين.

ويقدم أمثلة عن صرف اللوائح: يصل السقف الانتخابي في بيروت الثانية، بموجب القانون، الى مليارين و50 مليون ليرة، وفي بعلبك الهرمل الى مليار و800 مليون ليرة، على أن احتساب الصرف الانتخابي يبدأ من تاريخ فتح باب الترشح (الخامس من شباط الفائت). «ويعني ذلك أن أبواب الدخول الى مجلس النواب ستكون مشرّعة أمام المتمولين، وإلا كيف يمكن لمرشح يملك في حسابه مبلغ 100 ألف دولار، مواجهة مرشح آخر بإمكانه إنفاق مليون دولار».

ولعل عبارة «الدنيي عم تشتي مصاري» التي استخدمها أحد نواب زحلة الحاليين خير دليل على واقع مدينة «كل المرشحين عنها معهم مصاري»، من نقولا فتوش وميشال ضاهر وسيزار معلوف وغيرهم. يصح القول «رؤوس الأموال تتنافس، ولن يكون مستبعداً أن يصل سعر صوت الناخب الى 2000 دولار في زحلة في يوم الانتخابات»، بشهادة النائب نفسه (وصل سعر الصوت في بعض الدوائر في 2009 إلى حوالى الألف دولار)، وما يسري على زحلة يسري على دوائر أخرى مثل كسروان وجزين وبيروت.

يقول الخبير محمد شمس الدين لـ»الأخبار» إن القانون يسمح للمرشح الواحد بصرف مبلغ 300 مليون ليرة لبنانية (200 ألف دولار)، إضافة إلى 5000 ليرة عن كل ناخب، الأمر الذي يسمح لمرشح واحد بصرف حوالى مليون ونصف مليون دولار في دائرة كبيرة كالجنوب الثالثة (حاصبيا – مرجعيون – النبطية – بنت جبيل)، كونها تضم أقل من نصف مليون ناخب.

سقف الإنفاق الانتخابي
بدورها، قامت «الجمعيّة اللبنانيّة لتعزيز الشفافيّة – لا فساد» باحتساب سقف الإنفاق الانتخابي لكل لائحة في كل دائرة على أساس عدد المرشحين على اللائحة وعدد الناخبين في الدائرة بالاستناد إلى الأرقام النهائية الصادرة عن وزارة الداخلية والبلديات (77 لائحة و597 مرشحاً) وتبين ما يأتي:

ـ يبلغ المعدل العام للإنفاق بالنسبة إلى المرشح 1,125,696 دولاراً، ويبلغ المعدل العام للإنفاق بالنسبة إلى اللائحة 8,727,797 دولاراً.
ـ يتراوح سقف الإنفاق للمرشح الواحد بين 601,992 دولاراً في دائرة الجنوب الأولى (صيدا – جزين) كحد أدنى و1,716,903 دولارات في دائرة الجنوب الثالثة (النبطية – مرجعيون- حاصبيا) كحد أقصى.

ـ يتراوح سقف الإنفاق للائحة الواحدة بين 1,805,976 دولاراً للائحة غير المكتملة المؤلفة من ثلاثة مرشحين في دائرة الجنوب الأولى (صيدا – جزين) كحد أدنى و18,885,933 دولاراً للائحة المكتملة المؤلفة من 11 مرشحاً في دائرة الجنوب الثالثة (النبطية – مرجعيون – حاصبيا) كحد أقصى.

وبمقارنة سريعة للمبلغ الإجمالي للإنفاق الانتخابي، المقدر بـ 672,040,373 دولاراً مع الموازنة العامة لعام 2017، تبين أن هذا المبلغ يوازي حوالى ضعفي موازنة وزارة الأشغال العامة والنقل وخمسين في المئة من موازنة وزارة التربية وأربعة أضعاف موازنة وزارة الشؤون الاجتماعية.

نماذج من المتمولين
لا نموذج محدداً. هناك سياسيون متمولون على صورة سعد الحريري ونجيب ميقاتي. متمولون يريدون أداء دور سياسي مثل نعمة أفرام وروجيه عازار (كسروان) وفؤاد مخزومي ونزيه نجم ونبيل بدر (بيروت) وأنيس نصار (عاليه) وأمل أبو زيد (جزين) وفؤاد البستاني (الشوف) وأسعد نكد وميشال ضاهر (زحلة)، وسركيس سركيس (المتن)، ومحمد سليمان وأسعد درغام (عكار).

هناك متمولون يريدون مرشحاً بعينه مثل أنطوان بانوسيان الذي يحظى بدعم من صاحب «سوسيتيه جنرال» أنطوان صحناوي في دائرة بيروت الأولى إلى حد تجنيد ماكينة وإمكانات لا مثيل لها لأجل تأمين فوزه. هناك يحيى شمص وباتريك فخري وطارق حبشي وفؤاد حبشي في دائرة بعلبك ـــ الهرمل.