Beirut weather 17.41 ° C
تاريخ النشر March 7, 2020
A A A
ما هي الأصول التاريخية لرابع أهم محصول في العالم؟
الكاتب: بي بي سي

في منتصف القرن التاسع عشر، أتلفت آفة زراعية محصول البطاطس في أيرلندا ومهدت الطريق لمجاعة أدت إلى تراجع أعداد سكان أيرلندا في غضون سنوات إلى النصف، وألقت بظلالها الكثيفة على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في البلاد لعقود.
وبالرغم من أن الصين والهند وروسيا وأوكرانيا تحتل صدارة الدول المنتجة للبطاطس، إلا أن الموطن الأصلي للبطاطس هو جبال الإنديز في أميركا الجنوبية، حيث استخدمت البطاطس كمحصول غذائي للمرة الأولى منذ نحو 8,000 عام. ولم تعرفها أوروبا إلا في منتصف القرن السادس عشر، وانتقلت منها إلى الغرب والشمال، ثم عادت إلى الأميركيتين وما بعدها.
وتقول ريبيكا إيرل، مؤرخة الطعام، إن البطاطس انطلقت من جبال الإنديز لتحقق نجاحا مدويا في أنحاء العالم. فهذه الدرنات تُزرع في جميع أنحاء العالم، ويعتبرها جميع سكان المعمورة “طعاما محليا”.
وتصف إيرل البطاطس بأنها “المهاجر الأكثر نجاحا في العالم”، إلى حد أن موطنه الأصلي لم يعد معروفاً للمنتجين والمستهلكين.
وتعد البطاطس رابع أهم المحاصيل في العالم، بعد الأرز والقمح والذرة، واستطاعت أن تشق طريقها بنجاح إلى قلوب الناس في مختلف أنحاء العالم، بفضل قيمتها الغذائية منقطعة النظير وسهولة زراعتها، وقدرتها على الصمود في وجه الحروب والتخفي تحت الأرض بعيدا عن أعين جامعي الثمار.
ويقول رينيه غوميز، كبير أمناء بنك الجينات بمركز البطاطس العالمي، الذي يجري أبحاثا عن كل ما له علاقة بالبطاطس، إن جبال الإنديز تضم أكبر تنوع وراثي للبطاطس.
وقد نجح المزارعون في جبال الإنديز في تحسين وزراعة أول محصول للبطاطس بالقرب من بحيرة تيتيكاكا، على بعد نحو ألف كيلومتر من العاصمة البيروفية، ليما. ومنها انتشرت البطاطس عبر سلسلة جبال كورديليرا، وأصبحت تشكل الغذاء الأساسي للمجتمعات الأصلية، مثل شعب الإنكا.
وفي عام 1532، قضى الغزو الفرنسي على حضارة الإنكا، لكن زراعة البطاطس ظلت باقية. إذ حمل الغزاة الإسبان درنات البطاطس، كشأن المحاصيل الأخرى كالطماطم والأفوكادو والذرة، عبر الأطلنطي. وخرجت البطاطس للمرة الأولى في التاريخ من الأميركيتين.
غير أن الدرنات لم تتأقلم بسهولة مع الطقس في إسبانيا وغيرها من البلدان الأوروبية، إذ كانت ساعات النهار في المنطقة الاستوائية التي كانت تزرع فيها ثابتة على مدار العام، على عكس البلدان الأوروبية التي يطول فيها النهار صيفا. وكانت الدرنات تنمو في المقابل في فصل الخريف قبل تكوّن الصقيع في فصل الشتاء.
وباءت زراعة البطاطس في القارة العجوز بالفشل في العقود الأولى. في حين أن البطاطس تكيفت مع الطقس في أيرلندا، حيث أتاح لها فصل الخريف البارد وقتا كافيا لتنمو وتنضج. وبعد قرن من قدومها إلى أيرلندا في الثمانينيات من القرن السادس عشر، استنبط المزارعون نوعا من درنات البطاطس ينمو في فصل الصيف، وأصبحت البطاطس المحصول الأساسي للفلاحين.
حظيت البطاطس بمكانة عالية في قلوب المزارعين كونها توفر قيمة غذائية منقطعة النظير لكل هكتار من الأراضي الزراعية. وكان المزارعون في أيرلندا، على سبيل المثال، يستأجرون الأراضي التي يزرعونها، وكان ملاك الأراضي يرفعون الأسعار ليجبرونهم على إنتاج أكبر كم من الطعام في أصغر مساحة ممكنة لسداد ثمن الإيجار. ولم يجدوا محصولا زراعيا أوفر غلة ولا أسهل في زراعته وتخزينه من البطاطس.
وفي القرنين السابع عشر والثامن عشر، كان فدان واحد مزروع بالبطاطس في أيرلندا وبقرة واحدة يكفيان لإطعام عائلة من ستة أو ثمانية أفراد. ولهذا أسرت البطاطس قلوب الفلاحين الأيرلنديين والبريطانيين لقرون.
ومن الجزر البريطانية، انتشرت البطاطس إلى شمال أوروبا، حيث زُرعت في هولندا وألمانيا وبولندا ووصلت إلى روسيا في الأربعينيات من القرن التاسع عشر.
وسرعان ما اكتشف المزارعون في أوروبا التي مزقتها الحروب والصراعات آنذاك، ميزة أخرى للبطاطس، وهي سهولة إخفائها عن جباة الضرائب والجنود الذين كانوا ينهبون أراضي الفلاحين ومخازن الحبوب.
وتقول إيرل، إن البطاطس، على عكس القمح، كانت تُخبأ تحت الأرض، ويصعب على جباة الضرائب معرفة حجمها الحقيقي. وعند الحصاد، كان بإمكان المزارعين إخراج كل واحدة منها بحسب الحاجة. وهذه الطريقة في الحصاد ساعدت في حماية مصدر طعام الفلاحين أيضا في أوقات الحروب.
ولم تغب هذه الميزة عن أنظار النخبة والخبراء الاستراتيجيين، إذ أمر فريدريك الثاني ملك بروسيا، حكومته بنشر إرشادات على الناس حول طرق زراعة البطاطس، حتى يجد الفلاحون ما يسد رمقهم في حال غزت جيوش الأعداء البلاد أثناء حرب الخلافة النمساوية عام 1740.
وحذت حذوها دول أخرى، حتى إنه في مستهل القرن التاسع عشر، عند اشتعال حروب نابليون، أصبحت البطاطس هي الاحتياطي الغذائي الأوروبي.
ويقول المؤرخ ويليام ماكنيل إن كل حملة عسكرية على الأراضي الأوروبية بعد عام 1560 كانت تسفر عن زيادة في مساحات زراعة البطاطس.
وبالرغم من أن مؤرخي الطعام ظلوا لعقود يعزون انتشار البطاطس إلى صفوة المجتمع والملوك الذين كانوا يروجون لقيمتها الغذائية، إلا أن إيرل ترى أن الفلاحين هم الذين أدخلوا زراعة البطاطس إلى أوروبا.