Beirut weather 18.41 ° C
تاريخ النشر March 7, 2020
A A A
ما بين التدمير البناء والفوضى شعرة
الكاتب: غسان حجار - النهار

 

يتحدث عالم الاقتصاد السياسي الاميركي من اصل نمسوي جوزف شومبيتر عن “التدمير البناء” او الخلاق، وركزت الادارة الاميركية خصوصا زمن كوندوليزا رايس، على “الفوضى الخلاقة” كوسيلة لصنع التغيير. لكن النظريتين مهددتان بالجنوح الى فوضى غير مضبوطة اذا ما تفلتت الامور من عقالها، وجنحت الى عنف دموي وحروب داخلية. فالكل قد يدرك البدايات، لكن النهايات غالبا ما تخرج من ايادي الذين يحسبون انهم يحركون الامور ويوجهون الحراكات.
لكن الاكيد بين هذه النظرية وتلك، اللتين قد تلتقيان في الهدف وفي الطريق اليه، ان المسار يكون للتغيير، من دون ضمان بلوغه وفق المشتهى.
ما يحصل حاليا في لبنان، هو التغيير بعينه، ويخطئ من يعتقد، انه يمسك، او سيمسك الامور، او يحدد المسار. وما قاله المطران بولس عبد الساتر في قداس عيد مار مارون هو عين الصواب، عندما اشار الى تفجر الينابيع، وعجز الانسان غالبا عن التحكم بمجرى المياه، لانها تجد طريقها من تلقاء نفسها. هذا يحصل في الينابيع الصغيرة، فكيف تكون الحال مع النهر الجارف.
ثمة مسلمتان ينبغي التوقف عندهما بكثير من الحكمة والتروي والتفكير العميق، ان توافر عمق التفكير هذا في زمن التسطيح والاضمحلال الفكري والانتماءات العشائرية الغرائزية والمذهبية.
المسلمة الاولى ان صيغة لبنان للعام 1943 انجزت مهمتها، ودخلت مرحلة الموت السريري، ولم تعد قادرة على مجاراة العصر، لانها قامت على توافق وتسويات تنفع لمرحلة انتقالية تمهيدا لمشروع بناء دولة متقدمة. لكن ثباتها طوال السنين، مع كل التطورات والمتغيرات، وتشبث الطبقة السياسية بها، لتحقيق المنافع، جعلها سيئة الى حد كبير، بل عقيمة. اما ان تكون نظرة البعض الى التغيير من باب استبدال المارونية السياسية بالسنية السياسية سابقا، وبالشيعية السياسية حاليا، فلا يطور النظام حتما، بل يقضي على البلد الى الابد. التغيير لا يكون بحلول الاسوأ مكان السيئ، بل بالقضاء على كل اسباب السوء. وهذا ما يجب ان يدفع الى التقدم باتجاه دولة علمانية، تقوم على المؤسسات وليس الطوائف، وقضاء مستقل وقادر ان يحكم بالعدل.
المسلمة الثانية ان الطبقة السياسية الحالية التي افلست منذ زمن بعيد، تعرت في زمن الافلاس المالي، اذ تراجعت المصالح والتنفيعات بعدما افرغت الخزينة وكل الصناديق من المال الذي نهبته الطبقة السياسية الحاكمة وازلامها. ان انتهاء صلاحية الطبقة السياسية يجعل البلد امام مشكلتين اولهما عدم جهوزية البدائل للامساك بالسلطة وممارسة الحكم الرشيد، وثانيها هو عدم رضوخ السياسيين لفكرة انتهاء صلاحيتهم مجتمعين، وبالتالي تمسكهم المتوحش بالكراسي “مدعومين”من ازلامهم الضحايا الذين اقتنعوا عن عبث بان بقاءهم مرتبط بهذا الزعيم او ذاك. فاذ بهم يحاربون دفاعا عن الزعيم الذي يراكم الثروات والوزارات والمقاعد النيابية للدفاع عن تلك الثروات وليس عنهم.
امام هذا الواقع، الانقسامي، الانهزامي، يبرز خوف من ان تسقط كلمة “الخلاقة” فلا يبقى لنا الا الفوضى، وتسقط كلمة ” البناء” ويبقى “الدمار”، لان لبنان كسر كل النظريات، واوجد نظريات جديدة لا قواعد لها.