يُطرح هذه الأيام سؤال هام حول الأسباب التي تدفع الإدارة الأميركية إلى التشدّد في المفاوضات مع إيران، وفي الوقت ذاته تحرص على الاستمرار في المفاوضات.. التي استؤنفت في جولتها الخامسة في روما من دون تذليل العقدة الأساسية المتمثلة بتخصيب اليورانيوم، وسط تصريحات إيرانية حازمة لناحية رفض المسّ بحقّ إيران في مواصلة التخصيب، والتأكيد بأنّ إصرار واشنطن على عدم الإقرار بهذا الحق لن يؤدي إلى التوصل إلى اتفاق.. ومع انّ المفاوضات لم تحرز تقدماً إلا انها مستمرة وسيحدد موعد لاحق لجولة جديدة.
أولا، من يدقق في المجريات يلاحظ انّ التهديد الإسرائيلي بضرب البرنامج النووي الإيراني يلعب دوراً مهماً وحاسماً في عودة إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى التصلب في موقفها التفاوضي، خاصة في ما يتعلق بمسألة تخصيب اليورانيوم.. مع الحرص في ذات الوقت على استمرار المفاوضات..
ومن الواضح ان «إسرائيل» تزعم انها قلقة من احتمال امتلاك إيران لسلاح نووي في المستقبل، وتعتبره يمثل تهديداً وجودياً لأمنها القومي.. فيما هي تملك برنامجاً سرياً للتسلح النووي وأنتجت قنابل نووية وترفض الاعتراف بذلك أو السماح لوكالة الطاقة الدولية التفتيش في المنشآت الإسرائيلية النووية، ومع ذلك تمارس الضغط بشدة على الإدارة الأميركية عبر مراكز ومواقع النفوذ الإسرائيلي في الولايات المتحدة، لمنع الاعتراف لإيران بحقها في مواصلة تخصيب اليورانيوم حتى ولو كان للأغراض السلمية التي تسمح بها معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية التي انضمّت إليها طهران.. ذلك انّ تل أبيب تنظر إلى التخصيب باعتباره الخطوة الأهمّ نحو إنتاج سلاح نووي.. رغم تأكيد إيران الدائم على أنّ تخصيبها إنما هو للأغراض السلمية، لا سيما بعد أن امتلكت إيران القدرة على التخصيب بمستويات عالية بلغت 60% وباتت قريبة من 90% اللازمة للسلاح النووي، مما تعتبره «إسرائيل» خطاً أحمر…
ولهذا تستخدم «إسرائيل» نفوذها في واشنطن لإثارة المزاعم حول خطورة البرنامج النووي الإيراني وتصاعد التخصيب. وتُذكّر الإدارة الأميركية باستمرار بأنّ الخيار العسكري يظلّ مطروحاً على الطاولة إذا فشلت الدبلوماسية في منع إيران من التخصيب..
وفي هذا السياق فإنه من المعتقد ان تكون التقارير الاستخبارية التي تنشر عن استعدادات إسرائيلية لضرب المنشآت النووية الإيرانية، يجري تسريبها أحياناً عمداً أو بشكل غير مباشر، بهدف زيادة الضغط على الولايات المتحدة للتشدد في مفاوضاتها مع إيران.
ثانياً، انّ واشنطن تسعى، كما هو واضح، من خلال حرصها على استمرار المفاوضات، لتجنّب التصعيد العسكري، رغم علاقتها الاستراتيجية العضوية مع «إسرائيل»، لأنها لا ترغب في الانجرار إلى صراع عسكري واسع في المنطقة.. فهذا الصراع من وجهة نظر واشنطن قد تكون له عواقب وخيمة على المصالح الأميركية والإقليمية والعالمية.
ولكن لمنع «إسرائيل» من اتخاذ إجراء عسكري منفرد، تلجأ واشنطن إلى اتخاذ موقف أكثر تشدّداً في المفاوضات لتقديم ضمانات لـ «إسرائيل» بأنّ البرنامج النووي الإيراني لن يشكل «تهديداً»، وبالتالي تقليل دافع «إسرائيل» للقيام بضربة عسكرية.
وإذا توصلت واشنطن وطهران إلى اتفاق لا يلبّي الشروط الإسرائيلية، فإنّ «إسرائيل» قد تقوم منفردة بتوجيه ضربة لبرنامج إيران النووي، وهو ما تحاول الولايات المتحدة تجنبه.. وتمارس الضغط على الحكومة الإسرائيلية لمنعها من القيام بذلك.
ثالثاً، فيما تسعى الولايات المتحدة للحفاظ على مصداقيتها كضامن لأمن حلفائها في المنطقة، فإنها تعمل على الموازنة بين ما يزعم انه مخاوف لديهم، وبين سعيها لحلّ دبلوماسي، مع الأخذ في الاعتبار أنّ التشدّد المفرط قد يدفع إيران إلى الانسحاب من المفاوضات أو تسريع برنامجها النووي وهو ما لا تريده واشنطن.
رابعاً، العواقب المحتملة لقيام «إسرائيل» بضرب إيران
تدرك واشنطن جيداً أنّ أيّ ضربة إسرائيلية للمنشآت النووية الإيرانية يمكن أن تؤدّي إلى ردّ فعل إيراني عنيف، مما قد يشعل حرباً إقليمية.. هذا الردّ قد يستهدف مصالح الولايات المتحدة في المنطقة أيضاً،
ولذلك، فإنّ واشنطن تفضل أن يكون لديها القدرة على التحكم في مسار الأحداث من خلال الدبلوماسية، بدلاً من ترك الأمر لخيارات عسكرية قد تكون خارج نطاق سيطرتها.
بناء على ما تقدّم يمكن القول إنّ الموقف الأميركي المتصلب بشأن تخصيب اليورانيوم الإيراني ليس مجرد موقف مبدئي، بل هو نتيجة لتفاعل المصالح الأميركية، والضغوط الإسرائيلية، والرغبة في تجنب التصعيد العسكري. فالتهديدات الإسرائيلية، وإنْ لم تكن هي السبب الوحيد، إلا أنها تزيد من الضغط على واشنطن للحصول على ضمانات قوية من إيران بشأن برنامجها النووي.. لكن إيران في المقابل لديها خطوط حمراء لا تستطيع التنازل عنها وفي مقدمها الحفاظ على حقها في مواصلة التخصيب لاغراض التطوير والبحث العلمي إلخ… ورفض أي تفاوض يطال قضايا تمسّ أمنها وقدراتها الدفاعية واستقلالية قرارها…