Beirut weather 15.41 ° C
تاريخ النشر December 16, 2017
A A A
لِمَن القُدْس؟
الكاتب: المطران كيرلّس سليم بسترس - النهار

القدس من أقدم المدن المأهولة في التاريخ. تاريخها حافل بالاحتلالات. هوجمت 52 مرّة، تمّ الاستيلاء عليها وإعادة تحريرها 44 مرّة، حوصرت 23 مرّة، ودمرت مرّتين. بناها وسكنها الكنعانيّون منذ أربعة آلاف سنة. ويروي الكتاب المقدَّس أنّ إبراهيم قدم إلى بلاد الكنعانيّين مع عشيرته حوالى سنة 1800 قبل المسيح نازحين من “أُوْر” بلاد الكلدانيّين وسكن في “حبرون” (مدينة “الخليل” اليوم) (تكوين 18:12). وأتى إلى “شليم”، فاستقبله ملكها “ملكيصادق” وقدّم له خبزًا وخمرًا وباركه، “وأعطاه إبراهيم العُشْر من كلّ شيء” (تكوين 18:14-10). كما يروي الكتاب المقدّس نزوح بعض القبائل اليهوديّة إلى مصر حوالى سنة 1700 قبل المسيح وإقامتهم هناك حتى سنة 1250 حين أخرجهم موسى النبيّ من مصر، وساروا في الصحراء مدة أربعين سنة إلى أن دخلوا مع يشوع بن نون أريحا وراحوا يحاربون الكنعانيّين ويحتلّون مدنهم الواحدة تِلْوَ الأخرى.

حوالى سنة 1000 أُعلِن النبيّ داود ملكًا على أورشليم، ثم تلاه سليمان، الذي بنى “هيكل أورشليم”. سنة 933 انقسمت المملكة مملكتين: مملكة في الجنوب حول أورشليم ومملكة في الشمال حول السامرة. ووقعت المملكتان عدة مرّات تحت احتلال الأشوريّين والبابليّين، وتمّ سبيهم إلى بابل مرّة أولى سنة 597 على يد نبوخذ نصّر، ومرة ثانية سنة 587 حيث دمّر هيكل أورشليم، ومرة ثالثة سنة 582. سنة 538 أذن الملك قورش لليهود بالعودة إلى أورشليم. فأعيد بناء الهيكل بين 520 و515. سنة 332 وقعت أورشليم تحت احتلال الإسكندر الكبير، وبقي يحكمها الهلّينستيّون (اليونان) حتى سنة 63 قبل المسيح، حيث استولى عليها بومبيوس القائد الرومانيّ. سنة 20-19 قبل المسيح، أعاد الملك هيرودس الكبير بناء هيكل أورشليم. ففي أثناء حياة السيّد المسيح كانت فلسطين تحت حكم الرومان، وبيلاطس الوالي الرومانيّ هو الذي حكم على يسوع بالموت.

ويروي لنا الإنجيل المقدّس أنّ يسوع بكى مرّتين في حياته: مرّة أمام قبر لعازر ومرّة على أورشليم، كما نقرأ في إنجيل لوقا: “ولمّا اقترب من المدينة وأبصرها بكى عليها قائلاً: ليتكِ أنتِ أيضًا، عرفتِ في هذا اليوم كيف تجدين السلام، ولكنّه قد حُجِب عن ناظريك. إنّه ستأتي عليكِ أيّام يُطوّقكِ فيها أعداؤكِ بالمتاريس. ويحاصرونكِ، ويضيّقون عليكِ من كلّ صوب. ويمحقونكِ أنتِ وبنيكِ الذين فيك، ولا يتركون فيكِ حجرًا على حجر لأنّك لم تعرفي زمن افتقادِكِ” (لوقا 41:19-44). وتحقّقت هذه النبوءة سنة 70 بعد المسيح، عندما احتلّ الإمبراطور الرومانيّ تيطس المدينة، على أثر ثورة اليهود سنة 66، ودمّر معظمها وأحرق هيكلها. سنة 130 زار الإمبراطور أدريانُس ما بقي منها، وأعاد بناءها سنة 135 كمدينة وثنيّة ودعاهاAelia Capitolina ، وبنى فيها هيكلاً لجوبيتر، وضيّق على اليهود، ممّا حملهم على الثورة بقيادة سمعان بار كوشبا. فقتل الرومان حوالى نصف مليون من اليهود، وصارت أورشليم مدينة رومانيّة وثنيّة على مدى 150 سنة، ومُنِع اليهود من الإقامة فيها.

سنة 335 أعاد الملك قسطنطين بناء المدينة كمدينة مسيحيّة، وبنت فيها الملكة هيلانة كنيسة القيامة. سنة 638 احتلّها الخليفة عمر بن الخطاب، وسمح لليهود بالعودة إليها. سنة 1099 احتلّها الصليبيّون حتى سنة 1187 حين احتلّها صلاح الدين الأيّوبيّ الذي سمح لليهود والمسيحيّين والمسلمين بممارسة دينهم فيها. ثم توالى عليها الحكام: الأيّوبيّون ثم المغول ثمّ المماليك. وسنة 1517 احتلّها العثمانيّون حتى 11 كانون الأول 1917 حيث افتتحها الجنرال البريطاني إدموند أللنبيّ. وتوالى مجيء اليهود إلى فلسطين على أثر وعد بلفور. في 29 تشرين الثاني 1947 وافقت الجمعيّة العمومية للأمم المتّحدة على مشروع تقسيم فلسطين دولتين: دولة إسرائيليّة ودولة عربيّة، على أن تبقى القدس تحت إدارة دوليّة كجسم مستقلّ corpus separatum. ونشبت الحرب بين اليهود والعرب، وكانت نكبة 1948، وأُعلِنت دولة إسرائيل، وانقسمت القدس إلى غربيّة إسرائيليّة وشرقيّة عربيّة. في 23 كانون الثاني 1950، قرّرت الكنيست أن تكون القدس عاصمة إسرائيل. هذا القرار نقضه مجلس الأمن في قراره رقم 478 وأعلنه باطلاً. سنة 1967 بعد حرب الأيّام الستة احتلّ اليهود القدس الشرقيّة، التي فيها معظم الأماكن المقدَّسة للمسيحيّة والإسلام واليهوديّة.

إنّ الشرق الأوسط لن يعرف السلام ما لم تجد القضية الفلسطينيّة الحلّ العادل الذي يضمن للشعب الفلسطينيّ حقّه المشروع بأن تكون له دولته الخاصّة على الأرض التي عاش فيها طوال قرون. هذا ما طالب به السينودس لأجل الشرق الأوسط المنعقد في الفاتيكان سنة 2010.

أمّا القدس، التي مرّ عليها حكّام من كلّ الأديان ومن كلّ الشعوب، فقد آن الأوان ليفهم الجميع أنّه لا يمكن أن يحتكرها أيّ شعب ولا أيّ دين ولا أيّ دولة. إنّها مدينة مقدّسة لجميع المؤمنين بالله من يهود ومسيحيّين ومسلمين، المدعوّين إلى أن يعيشوا فيها معًا بسلام ويبنوا في العالم سلام الله. فيها صُلِب يسوع المسيح، وبصليبه أزال العداوةَ بين البشر، ومنها قام من بين الأموات لينتشر مجد الله على جميع الشعوب. إنّها على هذه الأرض رمز لأورشليم السماويّة التي تقول عنها رؤيا القديس يوحنا: “ورأيتُ المدينة المقدّسة أورشليم الجديدة، نازلة من السماء، من عند الله، مهيَّأة كعروس مزيَّنة لعريسها، وسمعتُ صوتًا من العرش يقول: هوذا مسكن الله مع الناس، وهو سيسكن معهم. وسيمسح الله كلّ دمعة من عيونهم، ولا يكون بعد موت، ولا نوح، ولا نحيب، ولا وجع، لأنّ الأوضاع الأولى قد مضت” (رؤيا 1:21-4). ألا ينبغي أن تكون القدس الحاليّة، في أمنها وسلامها، صورة لأورشليم السماويّة حيث سيلتقي جميع المؤمنين من مختلف الأديان ويسبّحوا معًا الله الواحد خالق جميع الناس؟