Beirut weather 16.88 ° C
تاريخ النشر July 12, 2023
A A A
ليست ذكرى في التاريخ… بل كتابة التاريخ
الكاتب: ناصر قنديل - البناء

مَن يعرف حجم التحوّل التاريخي الذي صنعته المقاومة في كل من عامي 2000 و2006، يشعر بالمقدار ذاته من الفخر والمرارة، وإذا كان الفخر عائداً الى حجم الإنجاز والإعجاز، وكل منهما صحيح، فإن المرارة ليست فقط، بسبب الجحود الذي تلاقيه هذه المقاومة من بعض أبناء بلدها، الذي جعلته بفضل تضحياتها وإنجازاتها صاحب الإنجاز العربي الوحيد منذ قرن، بإلحاق الهزيمة بالعدو الذي تباهى كثيراً بأنه هزم كل جيوش العرب دفعة واحدة بستة أيام، فخاضت المقاومة حروب الثأر للكرامة العربية المكلومة، واستعادت للمواطن العربي في كل بلد عربي، الثقة بنفسه وجيشه وشعبه. وأن يكتب هذا على يد هذا الوطن الصغير لبنان لهو مفخرة لكل لبناني ضاع الشعور بها على الكثيرين منهم بسبب الكيد والنكد والرهانات الخاطئة والسياسات المريضة والحسابات الموبوءة. المرارة أيضاً لأن الشعب الذي يفترض أن يلتف حول هذه المقاومة ويحتفل بإنجازاتها، قد تكفلت الانقسامات والعصبيات والهموم المعيشية والأزمات المتلاحقة والحملات الإعلامية الهادفة لشيطنة المقاومة، بصرف نظره عن هذه الإنجازات، وصارت المقاومة بنظره بفعل الحملات التي استهدفتها مجرد فريق لبناني بين فرقاء لهم ما لهم وعليه ما عليهم، وذلك عائد لحجم انتشار هذه الحملات بفعل سيطرة أصحاب المشاريع المناوئة للمقاومة، على أغلب الإعلام اللبناني والعربي، بقوة المال الآتي من الخارج ضمن مشاريع مبرمجة لتشويه المقاومة والنيل منها، وتعميم العصبيات الطائفية والمذهبية، ما جعل اللبنانيين الطيبين كمواطنين، ينسون تلك اللحظات المجيدة التي منحتهم إياها المقاومة، وتتراكم فوقها الآلام الحياتية والهموم والتشويش في الأفكار والمشاعر.

من النادر أن تتكرّر في تاريخ الشعوب الأحداث التي توصف بالتاريخية، وأغلب هذه الأحداث على ندرتها، تكون ثورات غيّرت أنظمة حكم بائدة ظالمة، خلفتها بدائل تحمل شعارات تلاقي آمال وطموحات الشعوب، لكن مثل هذه التحولات تبقى تحت الفحص لجهة مدى صدقية لكونها تحولات تاريخية من هذه الناحية، حيث غالباً ما تتكفل ممارسة الحكم بتحويل السلطات الجديدة إلى نسخة منقحة عما كان قائماً، لذلك يبقى الحدث التاريخي الذي لا يقبل التآكل ولا يضعف بالتقادم مع مرور الزمن، ولا يدور حول صدقية إنجازه الشك، ويمثل اليقين التاريخي للشعوب والأوطان، هو ما يرتبط بالانتصارات التي تحققها الشعوب في حروبها الوطنية الكبرى، حيث لا ينتقص من حجم إنجاز هذه الانتصارات أي نوع من السلطة يخلفها. فالثورة الجزائرية على المحتل الفرنسي هي ذاكرة الفخر والكرامة التي يجتمع الجزائريون تحت سقفها. والثورة الفيتنامية التي حررت فيتنام من الاحتلال الأميركي تبقى أيقونة أحداث القرن العشرين. وما أنجزته المقاومة في لبنان في كل من عامي 2000 و2006 يندرج تحت عنوان هذا النوع من الأحداث التاريخية، التي لا يطالها شك بصدقية إنجازها، ليس للبنان واللبنانيين فقط بل لكل العرب، بل لكل مَن يقف على خط الاشتباك مع مشروع الهيمنة الأميركية الذي كان حاضراً بصورة مباشرة في حرب تموز 2006.

مهما حاول البعض تزوير التاريخ والجغرافيا، فإن الحقيقة ساطعة لجهة الموقع الفعلي لكيان الاحتلال في التاريخ والجغرافيا، وما أنجزته المقاومة ساطع على هذا الصعيد بحجم ما مثل من إلحاق إصابة بالغة بقدرة هذا الكيان على الاستمرار، وليس فقط بإجباره على الانسحاب ذليلاً من جنوب لبنان عام 2000 دون قيد أو شرط ودون تفاوض، أو بمنعه من تحقيق أهداف حرب عام 2006. فالحقيقة التي يعرفها الباحث هي أنه كما قام الكيان على قدمين، الأولى قدرته على احتلال الأرض، أي أرض، متى شاء، والبقاء فيها إلى ما يشاء، والثانية هي قدرته على خوض الحرب متى وأين يقرّر والفوز بها، فإن المقاومة لم تكتف بكسر قدميه بل جعلته كسيحاً بدونهما، وقد جاء ما بعد تحرير العام 2000 ليؤكد أن ما أصيب هو أكثر من قدرة الاحتلال على البقاء في جنوب لبنان، بل قدرته على البقاء في أي أرض محتلة، فكان الانسحاب من غزة ترجمة لهذا القانون، وجاء ما بعد انتصار تموز 2006 ليؤكد أن ما أصيب أكثر من قدرة خوض حرب على لبنان، بل مبدأ القدرة على خوض حرب، وجاءت كل حروب غزة وصولاً الى معركة سيف القدس وانتهاء بجنين لتؤكد هذه الحصيلة.

إن عظمة المدرسة التي أسسها أبطال قادة على رأسهم الشهداء الكبار والعظام في مقدّمتهم الشهيد القائد السيد عباس الموسوي صاحب معادلة “إسرائيل هذه سقطت”، أنها قامت على معادلة الروح التي تقاتل، كما وصفها القائد العظيم الشهيد عماد مغنية جنرال حروب المقاومة وانتصاراتها. وهذه المدرسة قالت للفقراء أنهم يستطيعون بالمثابرة والتعلم وتحدي الذات والتسلح بالإيمان والثقة بالنفس والله والشعب أن يصنعوا المعجزات، وان يكونوا جنرالات حرب يتفوّقون على جنرالات الجيش الذي قيل إنه لا يقهر، فالروح التي تقاتل ليست فقط الروح التي تستعدّ للشهادة وتلاقيها بفرح، بل هي أيضاً الروح التي تثابر وتتعلّم وتوسّع مهاراتها وتتقن كل فنون القتال وتبتكر وتسيطر على التكنولوجيا وتسبق عدوها دائماً بخطوتين على الأقل، وتتسلّح بالأخلاق والصدق والوفاء والتواضع. فتقرأ الوقائع على حقيقتها ولا تبخس عناصر قوة عدوّها حقها، وتتواضع في قراءة عناصر قوتها ولا تتباهى بها، وتصدق مع شعبها في الربح والخسارة، ولا تتخلّى عن أسر شهدائها ولا تترك أسراها ولا تنسى أهلها.

تموز 2006 عندما تجسّد سماحة السيد حسن نصرالله زعيماً استثنائياً للعرب، الذي انتقل بنا من معادلة “إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت” الى معادلة “ولّى زمن الهزائم وجاء زمن الانتصارات”، هو روح باقية تنمو وتتمدّد، وتحت شمسها تتعافى سورية، وفي ظلالها يسقط التطبيع، وبفعل بركتها تحققت المصالحة السعودية الإيرانية، وبفضل شفاعتها سوف تنتهي حرب اليمن، ومقابل الروح التي أثبتت حضورها، وانتصرت، قالت الحرب إن لا جدوى من قبة حديدية يقوم الكيان بتطويرها ولا بخطط لاستعادة لردع سوف تنفع، لأن إصابته الحقيقية هي في الروح وليست في كل هذه التفاصيل، وعندما تكون الإصابة في الروح، فإن النهاية حتميّة والمسألة مسألة وقت فقط.