كتب ناصر قنديل في “البناء”
– قبل ستة شهور قال الرئيس الأميركي دونالد ترامب إنه يريد أن يرى وقفاً لإطلاق النار في غزة قبل دخوله الى البيت الأبيض، فتوجّه مبعوثه إلى المنطقة ستيف ويتكوف وأدار مفاوضات انتهت بالإعلان عن اتفاق لوقف إطلاق النار في 19 كانون الثاني الماضي، أيّ قبل يوم واحد من دخول ترامب إلى البيت الأبيض. واليوم يتكرّر مشهد مماثل فيقول ترامب إنه يريد أن يرى وقفاً لإطلاق النار بل نهاية للحرب، ويبدأ ويتكوف بمساعي التفاوض وتبدو المسافة الفاصلة بين المواقف كبيرة، ويبدو الاتفاق صعب المنال رغم كلام ترامب عن قرب التوصل لاتفاق وكلام ويتكوف عن تذليل أغلب نقاط الخلاف.
– يعرف كل متابع لأوضاع المنطقة أن “إسرائيل” ازدادت اعتماداً على أميركا عن قبل بكثير، وأن الحرب الإيرانية الإسرائيلية أظهرت أن “إسرائيل” عاجزة عن خوض الحرب بمفردها، وقد بدأت من اليوم الثالث تدعو واشنطن للتدخل لأن المهمة أكبر من طاقة “إسرائيل”، ولم يكن الأمر فقط لأن لدى أميركا طائرات الـ “بي 2” وقنابل “جي بي يو 57”، ولا لأن تدمير مجمع فوردو النووي يحتاج إلى التدخل الأميركي فقط، بل لأن الداخل الإسرائيلي دخل بسبب الحرب في مواجهة تحديات وجودية لا يطمئن للقدرة على التعامل معها إلا أن يكون جزءاً من حرب تقودها أميركا، وظهرت “إسرائيل” أضعف من القدرة على الهجوم وأضعف أكثر من القيام بالدفاع، وكما استطاع إنذار الرئيس ترامب صناعة اتفاق 19 كانون الثاني فعزم الرئيس ترامب قادر على صناعة الاتفاق الجديد بالقوة ذاتها، فهل يريد؟
– يجري الحديث عن بنود الاتفاق وصعوبة تقريب المواقف من بعضها بعضاً، وتجاهل أن التفاوض يدور حول القضايا ذاتها التي تمّت صياغتها في الاتفاق السابق، وقف النار وتفاصيله التقنية واللوجستية، وإدخال المساعدات وتفاصيلها ومن يتولاها وكم هو حجمها، والانسحابات الإسرائيلية ومداها ومواعيد إنجازها، فلماذا العودة للتفاوض عليها، بل إن السؤال طبيعيّ عن سبب الحديث عن هدنة ستين يوماً، بدلاً من الحديث عن استئناف تطبيق الاتفاق السابق وفيه نص على التفاوض على الوضع النهائي في غزة وإنهاء الحرب، وفيه ثلاث مراحل نفذت منها مرحلة وبقيت مرحلتان، ولو أراد الرئيس ترامب وقف الحرب لأعلن العودة إلى الاتفاق الذي وقع على شرف دخوله البيت الأبيض وقطع بنيامين نتنياهو تنفيذه بعد نهاية المرحلة الأولى منه فقط بمباركة أميركيّة.
– عندما تترك واشنطن لنتنياهو أن يقرّر التراجع عن التزامه في الاتفاق السابق بحجم المساعدات ومرجعيّتها الأمميّة لطرح تحكم الاحتلال بها كماً وتوزيعاً، ويترك له التراجع عن حدود الانسحاب من قطاع غزة والمعابر وحرية الحديث عن إقامة سجن كبير في جنوب غزة لأبناء القطاع، ويكتفي الأميركي بإدارة التفاوض على شروط نتنياهو، ويتحدث عن إنجازات تراجع نتنياهو عن نسبة من موقفه الجديد الذي لا يشبه بشيء الاتفاق السابق. فهذا يعني أن واشنطن تشترك مع تل أبيب في محاولة توظيف المجازر وجرائم الإبادة والتجويع للضغط على المقاومة وانتزاع تنازلات جديدة منها، وأن واشنطن ليست كما تدّعي وسيطاً يسعى لإيقاف الحرب، وإلا فالطريق بسيط وسهل وبتوقيع أميركي، وهو مواصلة تطبيق الاتفاق السابق بمرحلتيه الثانية والثالثة المتبقيتين، فلماذا لا تفعل واشنطن؟
– من جهة تسعى واشنطن لمشاركة تل أبيب الابتزاز لتحسين شروط التفاوض بوجه حماس بتوظيف القتل والتجويع، ومن جهة موازية تبدو واشنطن وقد أنجزت صفقتها الخاصة مع نتنياهو وجوهرها الاتفاق على سحب يده من ملف الصراع مع إيران حرباً أم تفاوضاً، مقابل إطلاق يده في ملف غزة حرباً أم تفاوضاً، وبينما كان نتنياهو ذاهباً لإقناع ترامب بوضع قواعد اشتباك لما بعد الحرب مع إيران، تمنحه حق استهداف أي عمل إيراني لإعادة تشغيل مرافق نووية أو منشآت إنتاج صاروخي، وتعهد أميركا بحمايته وتمويله وتسليحه بما يلزم، كانت واشنطن تستخلص الدروس والعبر من الحرب وأهمها أنها لا تستطيع مجاراة إيران في الدخول بحرب استنزاف سوف تشعل الخليج وتدمّر ممرات الطاقة وتهدد استقرار دول الخليج ومداخيلها والتزاماتها المالية لأميركا وتهدد موارد الطاقة لأوروبا وتشعل حرب أسعار تضطرب معها الأسواق العالمية وتترك انعكاسات خطيرة في كل اتجاه، كما كانت واشنطن تتلقى تقييمات حلفائها الأوروبيين والعرب بأن بقاء حرب غزة مشتعلة منحت إيران عطفاً استثنائياً خلال استهداف صواريخها لـ”إسرائيل”، ومقابل التسليم بأن ملف إيران هو قبل كل شيء ملف أميركا، حصل نتنياهو على أن ملف غزة هو قبل كل شيء ملف إسرائيلي.
– لذلك كله تدرك المقاومة في غزة ويدرك معها اليمن أنه إذا كان هناك من أمل لصناعة وقف لإطلاق النار فإن الطريق هو بتصعيد العمليات التي تضغط على الاحتلال وتحوّل حربه في غزة من نقطة قوة إلى نقطة ضعف، وتنقل نتنياهو من حالة الطلب إلى حالة العرض، بلغة السوق وعالم الصفقات الذي يريده ترامب أساساً للتفاوض.