Beirut weather 22.41 ° C
تاريخ النشر December 1, 2017
A A A
لهذا ترسل روسيا غواصات ذاتية القيادة للمحيط المتجمد الشمالي
الكاتب: ديفيد هامبلنغ - بي بي سي

أصبح المحيط المتجمد الشمالي محط أنظار دول العالم لما يزخر به من ثروات من النفط والغاز الطبيعي، إلى حد أن روسيا أرسلت قواتها العسكرية لتثبت أحقيتها في هذه المنطقة.

ويعد المحيط المتجمد الشمالي أصغر المحيطات الخمسة على وجه الأرض، ويتميز بمياهه المتجمدة ورياحه القارصة، وتسوده أقسى الظروف الجوية على وجه الأرض. لكن هذا المحيط يخفي في باطنه تحت طبقة الجليد البحري، التي تصبح رقيقة حينا ويزداد سمكها حينا آخر مع اختلاف الفصول، كنزا من الموارد الطبيعية، معظمه لم يُستغل بعد.

وتشير التقديرات إلى أن المحيط المتجمد الشمالي يحوي مليارات من براميل النفط، وتريليونات الأقدام المكعبة من الغاز الطبيعي، إذ يمثل ما يحويه المحيط من موارد ما يتراوح بين 16 و26 في المئة من احتياطي الموارد غير المكتشفة على وجه الأرض.

وتبذل روسيا محاولات حثيثة لتسبق غيرها من الدول إلى استغلال هذا المصدر الغني بالثروات الطبيعية. وبعد عقود من انهيار الاتحاد السوفيتي، وضعت روسيا نصب عينيها مهمة حفر أعماق المحيط المتجمد الشمالي، وأرسلت أسطولا من أجهزة الروبوت التي تعمل تحت الماء، والغواصات غير المأهولة إلى هذا المحيط تحت أصعب الظروف الجوية في العالم.

وبعد سنوات من الحفر في المنطقة، تعتزم روسيا، التي شكلت صادرات النفط والغاز الطبيعي لديها 68 في المئة من صادراتها عام 2013، الاستعانة بأجهزة ومعدات تقنية متطورة لم نشهد لها مثيلا من قبل.

وتستخرج روسيا نحو 5.5 مليون طن من النفط سنويا من حقل النفط الوحيد لديها في المحيط المتجمد الشمالي، لكن غالبية مياه المحيط تغطيها طبقة جليدية سميكة على مدار العام، ما يجعل الوصول إلى هذا الحقل واستغلاله بالسفن السطحية مستحيلا.

وفي مشروع “أيسبرغ” الروسي، وهو خطة طموحة لاستخدام التكنولوجيا الأكثر تطورا التي تناسب الأحوال الجوية المتطرفة، تحدثنا إلى خبراء سلطوا الضوء على تصميمات المعدات الروسية في القطب الشمالي.

بدأ السباق للوصول إلى موارد المحيط المتجمد الشمالي الثمينة منذ سنوات طويلة، فهذه الثروات الكامنة في المحيط من نفط وغاز طبيعي تقع وسط روسيا والدنمارك والنرويج والولايات المتحدة الأمريكية وكندا، وهذه الدول القوية تريد بالطبع الحصول على نصيبها من الكنز.

وظلت روسيا نفسها تنقب في الدائرة القطبية على مدار عقود. وفي آب 2017، أرسلت غواصتين صغيرتين على عمق 4.200 متر من سطح القطب الشمالي، لنصب علم في قاع المحيط من التيتانيوم المقاوم للصدأ، في خطوة خطيرة واستفزازية، أرادت بها أن تثبت أحقيتها في ملكية هذه الأراضي.

وحتى العام الحالي، يراقب المجتمع الدولي عن كثب المحاولات الروسية لتوسيع قبضتها ونفوذها على مياه القطب الشمالي، وبالطبع ما تحويه من موارد ثمينة. وترى روسيا أن النفط والغاز الطبيعي من أهم مصادر الطاقة والدخل القومي. وقد يكون مشروع أيسبرغ هو وسيلة روسيا لاستعراض قوتها حتى تضمن استمرار احتكارها للنفظ والغاز الطبيعي في المنطقة بلا منازع. وتوسع روسيا بالفعل نفوذها العسكري في القطب الشمالي، فبعد تدشين العديد من القواعد العسكرية مطلع العام الحالي، بدأت روسيا في بناء المزيد.

وفي نيسان، كان صحفيو “بي بي سي” أول صحفيين أجانب يُسمح لهم بتصوير فرقة عسكرية متمركزة في القطب الشمالي، بالقرب من الحدود الفنلندية.

ويعكس تكثيف الوجود العسكري الروسي في المنطقة التطلعات الروسية المتزايدة في وقت أصبح الوصول إلى الموارد الطبيعية في القطب الشمالي، بفضل انحسار الجليد، أيسر من أي وقت مضى. ويقال إن القطب الشمالي أصعب مكان يمكن فيه التنقيب عن النفط، إذ يصل عمق المياه فيه في بعض الأماكن إلى خمسة كيلومترات، ويغطي الجليد الجزء الأكبر منه، وهذا يعيد إلى الأذهان التحدي الهندسي لاستخراج النفط من بحر الشمال في سبعينيات القرن الماضي، لأن أحدا لم يستطع آنذاك تشغيل منصات التنقيب عن النفط تحت هذه الأحوال الجوية الصعبة في الشمال. لكن في هذا الوقت، لم يحاول أحد التوصل إلى مشروع يضاهي “أيسبرغ”.

وذكرت مؤسسة الدراسات المتطورة الروسية، التي تعادل وكالة “داربا” الأميركية، أنها تخطط “لتطوير حقول النفط والغاز الطبيعي في بحار القطب الشمالي باستخدام معدات ذاتية القيادة وغير مأهولة تعمل تحت الماء وتحت الجليد في الطقس المتجمد القاسي”، وبعبارة أخرى، غواصات ذاتية القيادة تبحث عن النفط دون توجيه بشري.
إلا أن البعض يقول إن أهداف مشروع أيسبرغ غير واقعية، وأنها قد تكون مجرد ستار للتعتيم على نشر أنظمة عسكرية روسية تحت الجليد.

لكن المعلومة شبه المؤكدة أن هذا المشروع سيدعم مطالب روسيا بأحقيتها في ملكية هذه الأراضي الشاسعة في القطب الشمالي، وهي مطالب لا تزال قيد الدراسة لدى الأمم المتحدة.

وستكون “بيلغورود”، وهي أكبر غواصة نووية على الإطلاق، أبرز ثمار مشروع “أيسبرغ”، إذ يبلغ طولها 182 مترا. وستتولى الغواصة بيلغورود عمليات المسح تحت الماء، ووضع كابلات الاتصالات تحت الجليد، ولكن دورها الرئيسي هو أن تكون السفينة الموجهه لأسطول من الغواصات الصغيرة.

يقول فاديوم كوزيولين، محلل الأنظمة الدفاعية بمركز “بي أي أر” الروسي للأبحاث السياسية: “الغواصة بيلغورود هي منصة لتوزيع وتشغيل أنظمة عديدة في المياه، منها أنظمة لم تظهر بعد”. وقد أُضيف إلى تلك الغواصة جزء جديد طوله 30 مترا، ومزود بأماكن مخصصة لترسو فيها الغواصات الصغيرة المأهولة وغير المأهولة، وهذا يفسر ضخامة حجم بيلغورود. ولعل الجانب الأكثر طموحا من مشروع أيسبرغ هو اعتزامه بناء أول محطات طاقة نووية تحت الماء لتخدم الغواصات التي ستغص بها أعماق المحيط.

ومن المقرر بناء محطات الطاقة النووية على قاع المحيط وستتوقف عندها الغواصات غير المأهولة ليعاد شحنها. ومن المقترح أن تكون قدرة محطة الطاقة النووية 24 ميغاوات، وأن يكون عمرها الافتراضي 25 عاما. وستعمل كل محطة ذاتيا بلا توجيه أو تحكم من بشر، باستثناء الفنيين الذين سيزورون المحطة مرة سنويا لإجراء أعمال الصيانة الروتينية.

إلا أن تاريخ روسيا في الأمان النووي مليء بالإخفاقات، إذ فقدت روسيا سبع غواصات نووية منذ عام 1961، بعضها كان بسبب مشاكل في محرك الدفع النووي. وأدرجت 14 حادثة وقعت على متن السفن السوفيتية ضمن الحوادث النووية الأكثر تدميرا التي وقعت في البحار.

إذ تعرضت الغواصة بأكملها في إحدى الحوادث لمستويات مرتفعة من الإشعاعات، وتسرب المحلول المبرد في حادثة أخرى، ما أدى إلى انصهار قلب المفاعل النووي. ووضعت إحدى الحوادث في قالب درامي في الفيلم الأمريكي “الغواصة كيه 19: الفتاكة”.

لكن شركة “نيكييت” الروسية للطاقة تشير إلى أن غياب المشغلين من البشر سيرفع مستويات الأمان، لأن هذا يعني انخفاض فرص وقوع أخطاء بشرية مثل الخطأ الذي أدى إلى وقوع كارثة مفاعل تشرنوبل، حيث لم يعبأ العاملون آنذاك بتشغيل أنظمة الأمان التي كان من شأنها أن تغلق المفاعل في حالة زيادة مستويات الخطورة.

يقول ويليام ناتال، أستاذ الطاقة بالجامعة المفتوحة بالمملكة المتحدة: “أرى أن أغلب الأجهزة والمعدات النووية المتطورة التي يقترحها هذا المشروع مدروسة وتنم عن فهم عميق للتكنولوجيا النووية”.

يقول يوجين شواغيروس، بمركز الطاقة النووية التابع لجامعة كامبريدج، إن المفاعل قد يخضع للإشراف، رغم أنه غير مأهول، وفي هذه الحالة، سيتطلب مشغلين لإجراء أعمال بسيطة يوميا، كما هو الحال في الكثير من المفاعلات الحديثة. ويتابع شواغيروس: “إن المفاعلات اليوم ‘تدار ذاتيا’ إلى حد كبير، فإنها تنتج طاقة على مدار الساعة، ويقتصر فيها دور المشغلين على متابعة قراءات الأجهزة التشخيصية بالمحطة”.

ويقال إن العمل في محطات الطاقة النووية تحت الماء بلغ مراحل متقدمة، إذ يرمي مشروع أيسيرغ إلى تشغيل المفاعل الأول بحلول عام 2020. وبينما سيشارك بعض البشر في مرحلة تشغيل المفاعلات، فإن الكثير من العمليات الدورية الأخرى ستؤديها أجهزة الروبوت بمفردها.

ويعتمد المشروع على غواصات غير مأهولة في المياه العميقة، أو مركبات ذاتية القيادة تحت الماء، لتنفيذ المهام الشاقة والمحورية. وتُستخدم هذه المركبات ذاتية القيادة في الكثير من البلدان، ولكن بأعداد محدودة، وتحت رقابة صارمة من المشغلين بشكل عام. وكانت روسيا متأخرة نسبيا عن سائر الدول في هذا المضمار سابقا، ولكن يبدو إنها اتخذت استعداداتها لتعود بقوة للمنافسة.

وطورت مركبة “هاربسيكورد-2 أر- بي إم” ذاتية التحكم تحت الماء خصيصا لمشروع “أيسبرغ”، لتفسح المجال لجيل جديد من المركبات التي تعمل تحت الماء. وتخضع هذه الغواصة الشبيهة بالطوربيد، التي يبلغ وزنها طنين، وطولها ستة أمتار، للاختبار في البحر الميت، ويستعان بها بين الحين والآخر في انتشال حطام الطائرات.

وفي عام 2009، عثرت مركبة من هذا النوع على طائرة تابعة للبحرية الروسية تحطمت أثناء مهمة تدريبية وقُتل 11 شخصا كانوا على متنها. وكانت الطائرة قد سقطت في البحر قبالة شواطئ جزيرة سخالين الروسية بالقرب من اليابان، ولكن الجليد والظروف الجوية القاسية قد أعاقا عمليات البحث. ونجحت الغواصات التي تعمل بلا قائد تحت الماء في استعادة الصندوق الأسود المطلوب للتعرف على سبب تحطم الطائرة.

وعلى الرغم من أن هذه المركبات ذاتية التحكم تستخدم بالفعل في عمليات المسح والتمشيط تحت الماء، فإنها لم تسخدم من قبل في حفر قاع البحار. ويزعم إيغور فيلنيت، رئيس مكتب روبين المركزي للتصميم الهندسي البحري، كبرى شركات تصميم الغواصات في روسيا، أن أعمال تطوير حفّار ذاتي القيادة تحت الماء ستكتمل في غضون خمس سنوات.

وبالموازاة مع جميع عمليات الحفر والتنقيب تحت الماء التي تسير على قدم وساق في المنطقة، تحدث تغيرات بيئية كبرى تتجاوز التوترات السياسية، إذ يعجل التغير المناخي بذوبان الغطاء الجليدي في القطب الشمالي، ليضع السكان الأصليين للمنطقة، وكذلك الحياة البرية، أمام طيف واسع من التحديات.

ومن جهة أخرى، فإن ذوبان الغطاء الجليدي سيجعل المنطقة صالحة للعيش وسيصبح الوصول إليها أسهل، ولهذا فإن التغير المناخي قد يؤدي أيضا إلى تفاقم الاضطرابات السياسية في المنطقة.
**

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يقف إلى جوار رئيس الوزراء ديمتري ميدفيدف في زيارة إلى جزر فرانز جوزيف لاند النائية بالمحيط المتجمد الشمالي في 29 أذار 2017