فور عودة المفاوضات غير المباشرة بين إيران والولايات المتحدة الأميركية طُرح السؤال: لماذا غلّب الرئيس الأميركي دونالد ترامب خيار التفاوض بدلاً من خيار شن الحرب ضد إيران، وهل بإمكانه فرض شروطه على إيران، ام سيكون سقف ما يسعى اليه العودة إلى ما اتفق عليه عام 2015 مع بعض التعديلات التي لا تمسّ جوهر الاتفاق؟
أولاً، إنّ اختيار إدارة ترامب لمسار التفاوض مع إيران بدلاً من المواجهة العسكرية إنما يعود إلى عدة عوامل:
العامل الأول، تجنّب التصعيد العسكري بسبب كلفته وعدم ضمان تحقيق الهدف منه، ذاك انّ القيام بتوجيه ضربة لبرنامح إيران النووي والمواقع الحيوية وبرنامجها الصاروخي، كان سيؤدي إلى حرب واسعة في منطقة مضطربة أصلاً، مع احتمال اتساع نطاقها الأمر الذي سيهدّد مصالح الولايات المتحدة وحلفائها مثل «إسرائيل» وغيرها من الدول الحليفة لأميركا، فيما الحرب غير مضمونة في ان تؤدي إلى تدمير البرنامج النووي وقدرة إيران على العودة إلى النهوض وإصلاح الأضرار مع احتمال ان تلجأ إلى إعادة النظر بعقيدتها النووية والعمل على إنتاج القنبلة النووية،
كما أنّ الحرب سوف تتسبّب أيضاً بتكاليف بشرية ومادية هائلة، خاصة في ظلّ الإرث الثقيل لحروب العراق وأفغانستان، الذي فاقم من الأزمة الاقتصادية والمالية التي تعاني منها أميركا، وجعلت الخيار العسكري غير مرغوب فيه حتى للإدارة الأميركية الأكثر تشدداً.. وهو الأمر الذي دفع الرئيس دونالد ترامب إلى طرح شعار وقف الحرب وعصر النفقات لمواجهة العجز في الموازنة وأزمة تفاقم الدين العام إلى نحو 36 تريليون دولار…
العامل الثاني، اعتماد استراتيجية الضغوط القصوى:
منذ انقلاب الرئيس ترامب على الاتفاق النووي الذي وقعته إدارة الرئيس باراك أوباما عام 2015، آمن ترامب بأنّ فرض عقوبات اقتصادية قاسية (مثل حظر تصدير النفط وتجميد الأصول) سيدفع إيران إلى التفاوض من موقع ضعف، مما يسمح للولايات المتحدة بفرض شروط أكثر صرامة، مثل تقييد البرنامج الصاروخي الباليستي الإيراني، ووقف دعم طهران لقوى وحركات المقاومة ضدّ الاحتلال الإسرائيلي… لكن هذه الاستراتيجية لم تنجح تماماً، حيث ردّت إيران بتطوير برنامجها النووي عبر تجاوز حدود تخصيب اليورانيوم المتفق عليها في 2015 من 3,5 بالمئة إلى 60 بالمئة والانفتاح الاقتصادي باتجاه دول الشرق، والتشدد في موقفها التفاوضي.
العامل الثالث، الواقعية السياسية والدولية:
رفض الدول الشريكة بالمفاوضات النووية، بما في ذلك حلفاء أميركا الأوروبيون والصين وروسيا، الانسحاب من الاتفاق النووي عام 2015، مما قلل من تأثير العقوبات الأميركية وفقدان الشرعية الدولية لأيّ عمل عسكري.. والأمر لم يقتصر على الدول المذكورة أعلاه، بل وصل الرفض حتى إلى داخل الولايات المتحدة، حيث ظهرت معارضة واسعة لخيار الحرب، خاصة من الكونغرس والرأي العام.
ثانياً، هل يمكن لترامب فرض شروطه على إيران؟
1 ـ مَن يدقق في مواقف القيادة الإيرانية لا بدّ له من ان يرى صعوبة كبيرة، إذا لم يكن من المستحيل فرض الشروط الأميركية الكاملة على إيران، فقد أكدت التجربة قدرة طهران على مقاومة الضغوط الأميركية، وفي الوقت ذاته أظهرت مرونة في التعامل بشفافية مع الوكالة الدولية للطاقة النووية لتأكيد سلمية برنامجها النووي وقبولها بنسبة تخصيب لا تتجاوز 3,5 بالمئة، لكنها كانت حازمة في رفض تقديم ايّ تنازلات تمسّ بخطوطها الحمراء انْ كان لجهة حقها في الحفاظ على برنامجها النووي السلمي، وبرنامج الصاروخي وسياساتها الإقليمية باعتبارها قضايا سيادية لا يحقّ لأي دولة التدخل فيها.
2 ـ انّ سقف التفاوض المحتمل والأكثر واقعية إنما يكمن في عودة الولايات المتحدة إلى اتفاق 2015، خصوصاً أنّ المعطيات تشير إلى أنّ ما دفع إدارة ترامب للعودة إلى مسار التفاوض مع إيران، قلقها من الأنباء المتزايدة عن بلوغ البرنامج النووي الإيراني مرحلة متقدمة، واقتراب طهران من القدرة على إنتاج القنبلة النووية إذا ما أرادت ذلك.. على أنّ واشنطن سوف تحاول إدخال بعض التعديلات غير الجوهرية كتمديد «فترات انتهاء بعض البنود (مثل قيود تخصيب اليورانيوم)، أو إضافة آليات تفتيش أكثر صرامة. لكن التعديلات التي تمسّ جوهر الاتفاق او وشموله قضايا أخرى، لن يكون ممكناً تحقيقها وستواجه رفضاً إيرانياً قوياً.. إلى جانب تمسّك طهران ببعض منجزاتها التكنولوجية التي حققتها في السنوات الأخيرة.
على أنّ إيران تسعى أيضاً من الاتفاق النووي إلى رفع العقوبات التي تسبّبت بمصاعب اقتصادية واجتماعية للشعب الإيراني، من دون تقديم تنازلات تمسّ بخطوطها الحمراء، أما بالنسبة للولايات المتحدة، فإنّ أيّ اتفاق يجب أن يوازن بين مطالب الكونغرس والمحافظين، ورغبة الإدارة في إنجاز دبلوماسي.
خلاصة القول، إنّ ترامب فضل التفاوض لأنه أراد تجنّب حرب مكلفة، مع اعتقاده بأنّ المزيد من الضغط الاقتصادي قد يجبر إيران على القبول بشروط أفضل. لكن فرض الشروط الأميركية بالكامل غير واقعي، ولهذا فإنّ السيناريو الأرجح هو عودة مُعدلة لاتفاق 2015، مع تفاهمات غير مباشرة حول الملفات الخلافية، لكن دون ضمانات دائمة.