كتب غسان ريفي في “سفير الشمال”:
هندست الولايات المتحدة الأميركية العهد الجديد وإختارت مع المجتمع الدولي رئيس حكومته الأولى، وهي نفسها تعمل على تقويضه قبل أن ينطلق، بممارسات هي أقرب الى “الوصاية” تجبر من خلالها لبنان على الخضوع للإملاءات الاسرائيلية التي تنتهك أرضه وتعتدي على سيادته وتسلب كرامته الوطنية.
وضعت أميركا العهد وحكومته بين نارين، نار الاعتداءات الاسرائيلية بكل ما فيها من إرتكابات إجرامية وإنتقامية بحق القرى والبلدات الجنوبية، وإغتيالات وقتل للمواطنين وتخريب للممتلكات، وصولا الى رفض الالتزام بالانسحاب من كامل الأراضي اللبنانية في 18 شباط الجاري بحسب ما يقضي الإتفاق الممدد قسرا، ونار منع الرد على الغطرسة الاسرائيلية لا من قبل المقاومة الملتزمة مع الدولة في هذا الاتجاه لعدم إعطاء الذرائع لاسرائيل لاستئناف حربها، ولا من قبل الجيش اللبناني الذي يرى الانتهاكات ويسمع أصوات الانفجارات التي تسوّي ممتلكات المواطنين بالأرض من دون أن يمتلك حق الدفاع عن أرضه.
ما تقوم به أميركا أو تسمح به لإسرائيل، يحشر الدولة اللبنانية بكامل مؤسساتها وأجهزتها في الزاوية الصعبة، خصوصا أنها لم تعد تمتلك ما تبرر به بعض القرارات المفروضة أو الموحى بها، ما يضعها في موقف لا تحسد عليه، وتؤلب شريحة واسعة من اللبنانيين عليها وكثيرا ممن إستبشروا خيرا بإعادة بناء الدولة على أسس من السيادة والحرية والكرامة والانقاذ الاقتصادي والاجتماعي.
تعهدت المبعوثة الأميركية مورغان أورتاغوس بعدما إعتدت على السيادة الوطنية من على أعلى منبر لبناني رسمي، بخروج إسرائيل من كامل الأراضي اللبنانية في 18 الشهر الجاري، ثم إستكملت إعتداءها بزيارة الاحتلال الاسرائيلي في الأرض اللبنانية والانتقال من الجنوب الى تل أبيب برفقة وزير الحرب الاسرائيلي الذي إستقبلها على أرض لبنان المحتلة، وكل ذلك لم يحرك ساكنا لدى المسؤولين اللبنانيين، ولدى التيارات السياسية “السيادية” التي تعتمد “النعامة” نموذجا لها في مقاربة التطورات.
وبات واضحا أن تعهد أورتاغوس لم يلق آذانا صاغية في إسرائيل التي أبلغتها بأنها تحتاج الى أن تبقى في النقاط الاستراتيجية الخمس بحجة عدم تطبيق لبنان للإتفاق، ما إضطر رئيس لجنة المراقبة الدولية الجنرال جاسبر جيفرز للذهاب الى تل أبيب لكنه لم يجد تجاوبا، فعاد الى لبنان في محاولة لمقايضة الدولة بالانسحاب من كل البلدات والقرى مقابل البقاء في النقاط الخمس تلبية للرغبة الاسرائيلية، فجاء الموقف الرسمي من الرئيس نبيه بري بعد إستقباله جيفرز والسفيرة ليزا جونسون برفض أن تبقى إسرائيل في أي نقطة لبنانية بعد تاريخ 18 شباط.
اللافت، أنه بالرغم من الرفض اللبناني الرسمي، فإن أميركا لم تحرك ساكنا على مسافة يومين من الانسحاب وكذلك إسرائيل التي تلعب على الحبال بين الاستقواء بالدعم الأميركي والضعف اللبناني، وما يضاعف من خطورة الأمر في حال بقيت إسرائيل في النقاط الخمس ولم تلتزم بالانسحاب في الوقت المحدد، أمران، الأول أن جيشها سيتواجد في نطاق جغرافي واحد مع اليونيفيل ومع الأهالي ومع الجيش اللبناني، ما يعني عملية تطبيع مقنعة بدءا من الجنوب وربما هذا ما تريده أميركا. والثاني هو أن الاحتلال سيولد مقاومة تلقائية وفقا لميثاق الأمم المتحدة، سواء من أبناء القرى ضمن حركات مقاومة شعبية تنفذ عمليات عسكرية خاطفة لإنهاك العدو، أو إنهيار الاتفاق وعودة المقاومة الى ميدان المعركة لطرد إسرائيل، وما يمكن أن يؤدي ذلك من إستئناف للحرب على لبنان الذي لم تترك له الدول الراعية للإتفاق وخصوصا أميركا أي مجال للحفاظ على سيادته الوطنية.
لا شك في أن الانسحاب الاسرائيلي يُفترض أن يشكل مؤشرا الى جدية أميركا والمجتمع الدولي على حل الأزمة اللبنانية وإنهاء التوترات، وبما أن التهاون الأميركي والتعنت الاسرائيلي ما يزالان سيدا الموقف، فإن الأمور مرجحة لمزيد من التدهور ومن القرارات الرسمية الارتجالية التي من شأنها أن تضاعف من الاحتقان وصولا الى الانفجار في الشارع، خصوصا أن البلد لا يمكن أن يحكم بصيف وشتاء على سطح واحد، ولا يجوز أن يكون تحرك شعبي إحتجاجا على قرار حكومي جريمة لا تغتفر، وقيام إسرائيل في غضون 24 ساعة وبالرغم من وقف إطلاق النار بقتل أربعة مواطنين وجرح العشرات وتنفيذ عدد من الغارات ونسف بلدات بكاملها وتسوية مبانيها بالأرض مسألة فيها نظر!..