كتب ناصر قنديل في “البناء”:
يتحدّث المبعوث الأميركي توماس باراك كثيراً عن مناخ جديد في المنطقة، ويدعو لبنان للحاق به، ويعتبر أن إنهاء ملف سلاح المقاومة وحسم أمره يشكل مفتاح هذا اللحاق، وهذا الالتقاط للفرصة الذهبية. وعندما يدير اللبنانيون نظرهم لرؤية أين هو التغيير الذي يتحدث عنه، فيجدون في غزة مذبحة مفتوحة برعاية أميركية ويستدركون أن ليس هذا هو التغيير الذي يتحدث عنه توماس باراك، ويتطلعون نحو الخليج فيسمعون موقفاً سعودياً يعيد التأكيد على ربط التطبيع بمسار موثوق لقيام دولة فلسطينية، والدولة اللبنانية قالت مراراً إنها ملتزمة بالمبادرة العربية للسلام، وهي جزء منها، وتعتبر أن القيادة السعودية للوضع العربي وفق هذه المبادرة هي السقف المناسب لاعتماده والسير على أساسه، لكنهم ينتبهون إلى أن ما يقوله لهم باراك لا يقبل وضع شروط على “إسرائيل” تنفيذها كي ينطلق القطار، وإلا لكان الأميركي وضع ثقله لتنفيذ ما تعهد به كضامن لاتفاق وقف إطلاق النار بين “إسرائيل” ولبنان، وفقاً للقرار 1701، وأيّد مطالبة لبنان بأولوية تنفيذ الموجبات الإسرائيلية قبل مطالبة لبنان بشيء جديد، بعدما نفذ باعتراف الجميع بمن فيهم باراك نفسه ما عليه تنفيذه في جنوب الليطاني، فأين هو التغيير الذي يتحدّث عنه باراك ولم ينتبه له اللبنانيون؟
ينتبه لبنان إلى أن التغيير الذي يقصده باراك ليس له من تعبير إلا في سورية، حيث انتقلت سورية من نظام يتمسّك بشروط استعادة أرضه المحتلة في الجولان كشرط للسلام، ويرى أن دعم المقاومة هو طريق تعديل الموازين مع الاحتلال لفتح طريق تفاوض متوازن معه، وأن المبادرة العربيّة للسلام تشكل الأساس الصالح للحل السياسي للقضية الفلسطينية وحروب المنطقة التي أشعلتها “إسرائيل”، وجاء نظام مستعد تحت الرعاية الأميركية أن يسلك طريقاً مغايراً، منفتح على إقامة علاقات مباشرة مع “إسرائيل” وأشكال من التنسيق الأمني، ويقول الأميركيون إنه مستعد للتطبيع مع “إسرائيل”، ويستنتج البعض من عداء هذا النظام المعلن لإيران وحزب الله أنه جاهز للذهاب بعيداً في التحالف مع “إسرائيل”، بعدما فتح أجواءه للطائرات الإسرائيلية خلال الحرب على إيران، فهل هذا النموذج واضح بما يكفي ليقال للبنان إن عليه التقاط الفرصة الذهبية، والانتقال من الاصطفاف وراء الموقف السعودي الملتزم بالمبادرة العربية للسلام، إلى إطار الحلول المنفردة، أم أن على لبنان على الأقل الانتظار حتى تكتمل الصورة وتتضح؟
يقال للبنان إن نزع السلاح سوف يجعله أكثر أمناً من الاعتداءات الإسرائيلية ومن توسع الاحتلال الإسرائيلي، لكن النموذج السوري يقول لهم عكس ذلك تماماً، وبالرغم من تدخل باراك شخصياً مع رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو لوقف الاعتداءات على سورية ومنح نظامها الجديد الفرصة لتنظيم شؤونه، فإن الاعتداءات تستمر وتتواصل، فكيف تصل الرسالة الى لبنان بأن نزع السلاح يجعله أكثر أمناً، وفي الحديث عن التطبيع الذي لم يصدر بعد شيء حوله من جهة رسمية في سورية، تحدّث وزير خارجية الكيان جدعون ساعر فقال إن الجولان ليس على طاولة التفاوض كثمن للسلام والتطبيع، فلماذا على لبنان أن يفهم أن أراضيه المحتلة التي يقول له باراك إنها ستعود، ستعود فعلاً ما دام هذا هو الحال مع سورية، لا عودة للجولان ولا من يحزنون، وبينما يقول باراك إن لبنان سوف ينعم بالأمن يقول رئيس أركان جيش الاحتلال إن جيشه سوف يحتفظ بحرية الحركة جنوب سورية بصفتها منطقة آمنة، فكيف لا يخشى لبنان أن يكون جنوبه كذلك، ويقدم الإسرائيليون في مفاوضات أذربيجان ورقتهم لصورة العلاقة الأمنيّة بسورية فيقولون بصراحة إن أجواء سورية يجب أن تبقى مفتوحة أمامهم، وإن الجيش في سورية ممنوع عليه امتلاك سلاح جو ودفاع جوي او سلاح صواريخ، ما يترجم مفهوم الأمن الإسرائيلي القائم على ثلاثية مناطق حدودية عازلة تحت السيطرة الإسرائيلية ودول مجاورة منزوعة السلاح وأجواء مفتوحة أمام الطيران الإسرائيلي بأنواعه، فهل سوف تحمي أميركا سورية من هذا التوحش الإسرائيلي؟
العقل يقول إن على لبنان أن يتريث يرى كيف سوف تسير الأمور في سورية وهي بين ثلاثة احتمالات، أن تنهار توقعات مسار سلام وتطبيع، يراه باراك آتياً وقد لا يأتي أبداً، والاحتمال الثاني أن يتأخر المسار بانتظار مناخات عربية شاملة تقع القضية الفلسطينية في قلبها وتشارك فيها دول الخليج بقيادة السعودية، ويكون لبنان محقاً بانتظارها حتى يتكامل المشهد العربي ويكون هو جزءاً منه، والاحتمال الثالث أن يأتي السلام والتطبيع في سورية لكن دون عودة الأرض وتحقق السيادة والأمن، فهل هذا ما يدعونا إليه باراك باعتباره فرصة ذهبية يخشى علينا أن تفوتنا؟
يفضل اللبنانيون أن يسيروا على مهل، ويصفهم باراك بالكسل، وأن يتمسكوا بأرضهم وأمنهم من الاعتداءات، وأن ينظروا للدور الأميركي وفق ما تعهد به في اتفاق وقف إطلاق النار، ويطالبونه بالقيام بما تعهّد القيام به، مقتنعين بالصفقة الصغيرة لا بمغامرات ومقامرات مسمّاة صفقة كبرى، تحت شعار اربح كل شيء أو أخسر كل شيء، فهذا النوع من الخطوات المجنونة لا تجوز بحق الأوطان، ويقبل اللبنانيون أن يعيشوا في غموض حول كيف ينتهي نقاشهم الداخلي حول مستقبل السلاح، مكتفين بأن يمشوا خطوة خطوة، والخطوة الآن هي استرداد الأراضي المحتلة داخل الخط الأزرق ووقف الاعتداءات ووقف الطلعات الجوية بأنواعها، وعندما تتحقق يذهبون إلى حوارهم بعقل ومنطق ومسؤولية ويرون إلى أين سوف يصلون، وفق قاعدة ما لا يحله الحوار يحله المزيد من الحوار، ولباراك ملء الحرية بأن يرضيه ذلك أو لا يرضيه.