Beirut weather 19.41 ° C
تاريخ النشر September 14, 2019
A A A
لبنان أمام تحدّي مواكبة الثورة الصناعية الرابعة
الكاتب: مازن مجوز - نداء الوطن

هل سيأتي يوم، يستقل فيه اللبناني “سيارات ذكية” من دون سائق، آمنةً وفعالة، قد تنهي مهنة سائق التاكسي؟ وهل سينطبق الأمر نفسه على الحافلات والشاحنات فتتحرك على الطرقات وتقف عند الإشارات و”تطلّع” ركاباً وتنزل آخرين من دون “سوّاقين”؟ وماذا سيفعل يومها “الشوفرية شرايين المدينة”؟ اضمحلال بعض المهن مقلق، أما المهن البديلة او تلك المتوقع لها أن تكون الأكثر رواجاً في لبنان حتى العام 2030 فستكون المتعلقة بالإنترنت أولاً، وبالمهارات التقنية كـ”تحليل البيانات” و”تطوير البرمجيات والتطبيقات” ثانياً، وبالمهارات الشخصية ثالثاً، مهن ستكون المفضلة غالباً بفعل الابتكار الصناعي المستمر.
ساعدت التقنيات الحديثة على تحول معظم اقتصادات العالم – بما فيها إقتصاد الولايات المتحدة – من إقتصاد التصنيع إلى الاقتصاد الخدمي، وعليه فقد أصبحت معظم الوظائف المطلوبة لا تشترط الحصول على شهادات جامعية عليا، ما سيدفع بالأفراد للسعي الى المعلومات والتعليم الأكاديمي بمعناه الضَيّق، ويجعل التعليم مهمة دائمة (lifelong learning) لا تقتصر على الحصول على شهادة فقط، بل مرتبطة بالخبرة التي يكتسبها الفرد، ما يجعله أكثر قدرة على التأقلم مع واقع ومستقبل يتغيران بسرعة شديدة.

يفيد 4 من كل 5 خبراء توظيف في لبنان أن عملية التوظيف ستشهد تغييراً في المستقبل، وذلك وفقا للإستبيان الذي أجراه موقع “بيت. كوم” للوظائف في الشرق الأوسط أواخر شهر آب، بالتعاون مع منظمة ” يوجوف” المتخصصة بأبحاث السوق، حيث صرح حوالى 9 من 10 مجيبين أن العملية ستعتمد كلياً على شبكة الانترنت، علماً أن الدراسة شملت حوالى 5000 من أصحاب العمل والمهنيين العاملين في المنطقة .

ويظهر الإستبيان أن الشركات في لبنان تركز على توظيف الكفاءات والاحتفاظ بها بشكل استراتيجي. ووفقاً للمجيبين، ستظل مهارات الكمبيوتر (95%) والتفكير الإبداعي (90%)، وإدارة الوقت (87%)، والقدرة على التكيف (81%)، أهم المهارات خلال السنوات العشر القادمة، تليها المهارات المتعلقة بالوظيفة (77%) والتواصل (77%) والعمل الجماعي (72%) وإدارة الأفراد (73%). وخلال عملية التوظيف، تعتبر الخبرة العملية (91%) وتصميم السيرة الذاتية (75%) أهم العوامل في العثور على أشخاص مؤهلين، كما يلعب التخصص الأكاديمي والتنوع والملاءمة الثقافية دوراً رئيسياً في قرارات التوظيف.

واعتبر المجيبون في الاستبيان أن الخبرة العملية (79%) ستظل أهم عامل يؤثر على قرارات التوظيف خلال السنوات العشر القادمة، وسيكون التخصص الأكاديمي في المرتبة الثانية (70%)، يليه تصميم السيرة الذاتية (69%). كما رأى 41% من المستطلعين أن كلاً من المهارات التقنية والشخصية ستكون بنفس الاهمية بعد 10 سنوات من الآن. من ناحية أخرى، يعتقد 2 من كل خمسة (39%) أن المهارات التقنية ستصبح أكثر أهمية.

ونظراً لدور التكنولوجيا في زيادة وتحسين فرص العمل في لبنان، يعتقد 90% من المجيبين أنّه من المحتمل أن يزداد الطلب خلال السنوات العشر المقبلة على مهندسي البرمجيات إلى جانب إرتفاع الطلب على المدراء الإداريين ومدراء المشاريع ومسؤولي الأنظمة والمصممين.

 

 

ثورة الدمج الكلي للأشياء

وفي هذا السياق، تحدث الدكتور محي الدين شحيمي (مستشار دولي يعمل على ما يسمى القانون الذكي والتشريعات الإبتكارية) إلى “نداء الوطن” محدداً ملامح المرحلة المقبلة وهي “ثورة الدمج الكلي للأشياء”، وتعتمد على دمج العالم المادي والمحسوس بالعالم اللامادي والافتراضي، لافتاً إلى أنه من البديهي أن ينعكس ذلك على مستوى الطرق وسلوك العيش وعلى العلاقات المهنية والاجتماعية، متوقعاً أن تؤدي هذه الثورة إلى فقدان الملايين من المناصب والمهن في سوق العمل في العالم.

ويكشف شحيمي (الباحث في القانون والحوكمة الاستراتيجية) أن الأهم من ذلك هو بقدر ما ستلغي هذه الثورة مناصب ومهناً، فإنها ستخلق مناصب جديدة، لكنها ستكون مميزة ونوعية متخصصة ومندمجة تكنولوجياً بالكامل، وعلى روادها أن يكونوا على القدر الكافي من الجهوزية، كي يفوزوا بها.

وإنطلاقاً من ذلك تأتي هذه الثورة لتسمح للعمال والموظفين بمواكبة العصر، وإشباع الرغبات وتحقيق الذات. ومن الأدلة على ذلك إعلان منظمة التجارة العالمية خلال السنوات الثلاث الماضية عن بروز العديد من المخاوف في سوق المهن، حيث أصبح بإمكاننا أن نتخيل منشآت صناعية ومعامل من دون عمال وموارد بشرية، فالمنشأة التي كانت تحتوي على آلاف العمال لن تحتاج حالياً إلا لعدد قليل من المشغلين، وهؤلاء هم العمال أصحاب الكفاءات والتخصصات العالية المندمجة بتناغم تام مع متطلبات السوق والعصر والتوجه الجديد للإقتصاد.

وبحسب تقسيم المنتدى الاقتصادي العالمي (world economic forum)، الذي انعقد في دافوس مطلع العام الحالي- ويعد شحيمي أحد المستشارين فيه – فإن الثورة الصناعية الاولى هي “البخارية”، والثانية هي “الطاقة والكهرباء”، والثالثة هي ثورة “الرقمية والانترنت والمعلوماتية” والرابعة وهي الحالية ” ثورة الدمج التام للأشياء”.

 

 

تقريب الجامعات والمدارس المهنية من سوق العمل

ومن أجل مستقبل أفضل وغد مشرق ولتبديد كل هذه المخاوف وتحويلها الى طاقة منتجة وتحفيزية، ومن خلال منتديات التفكير والتخطيط الاجتماعي، فإنه يتحتم على الدول الإستثمار الاكثر في التكوين، والتكوين المستمر، لأن الموضوع هنا يرتكز على “كيفية المحافظة على منصب عملك، مع التغيير التكنولوجي والتقني الحاصل برقمنة كل المجالات والقطاعات والسلوكيات والتصرفات ورقمنة المنهاج اليومي”، وفق المنتدى المذكور.

بدورها تشرح المحاضِرة في الاقتصاد في الجامعة اللبنانية وجامعة الحكمة لورا الصياح: “تُشكّل كل هذه التطورات تحديات أساسية للإقتصاد اللبناني وللتعليم الوطني، فقد أظهرت دراسة أن الشركات والمؤسسات في لبنان ترى أن الجامعات اللبنانية لا تؤمن لخريجيها المهارات التي يطلبها سوق العمل، وهي تطلب موظفين بمهارات مرنة من دون أن تعتبر هذه الشركات نفسها معنيةً بالانخراط في المناهج التعليمية، مستدركةً “لكن الوضع الاقتصادي الراهن يتطلّب ابداعاً أكبر، للتمكن من خلق سلع تكون قادرة على المنافسة في السوق المحلي والعالمي”.

ومن هنا ترى الصياح أنه بات يتوجب على الشركات المحلية تغيير إستراتيجياتها، والبحث عن سلع وخدمات جديدة وخلّاقة تكون قادرة على المنافسة، وتضيف: “في مرحلة ثانية، من الأفضل أن تقوم الشركات بالعمل مع القطاع الأكاديمي لتقريب الجامعات والمدارس المهنية من سوق العمل. من ناحية أخرى، على الجامعات التماشي مع المتطلبات العالمية، إن من ناحية الاختصاصات المعروضة، أو من ناحية طرق التعليم، أو من ناحية المهارات التي يكتسبها الطالب خلال دراسته”.

والأهمية لا تتوقف هنا بل تنسحب أيضاً على وجود مؤسسات تعليمية تقدم دورات تحسين مهارات. وتوضح الصياح أن الاختصاصات التي تسجل أعلى نسبة طلاب هي في الخدمات، بخاصة ادارة الأعمال، أما النسب الأدنى فهي في القطاعات الانتاجية، مستخلصة “إن التطور الحاصل يشكل خطراً على القطاعات الانتاجية في لبنان وعلى الموظفين أيضاً، لكنه يشكل أيضاً فرصاً كبيرة في القطاعات الخلاقة، قطاعات الكمبيوتر والتعامل مع الآخرين، وهو موضوع يبدع فيه اللبنانيون”.

 

 

المطلوب حاضنة إيجابية للثورة الرابعة

ويبدو أن الثورة الرابعة لن تميز بين بيئة وأخرى في لبنان، وهذا ما توصل إليه فريق الأبحاث الفرنسي المتخصص بالقوانين الذكية والإبتكارية ( Innovation Law ) – والذي يعد الشحيمي أحد أعضائه – حيث ينبغي على كل البيئات أن تتحضر كي تكون حاضنةً إيجابية لهذه المرحلة، وينبغي البدء بالتحضير لورشة موازية على مستوى الادارات والمؤسسات والموارد البشرية، والقواعد والنظم والتشريعات والشروع بالقوننة المناسبة، “نعمل حالياً في مجال التنظيم والبحث بمضمار القوانين الذكية والتي تواكب هذه المتحركات الطارئة أي قانون الاشياء”، يقول الشحيمي.

فعلى سبيل المثال وبحسب شحيمي: “تخيل ان روبوت يُستعمل لحاجات طبية قام بخطأ أدى الى ضرر بالمريض وعرضه للخطر وربما توفي، فعلى من تقع المسؤولية؟ هل على الروبوت أو على الطبيب الذي يستعمله؟ أو على الشركة المصنعة للروبوت أو الشركة المشغلة والمبرمجة؟ لمثل هذه الامور علينا أن نتهيأ ونتحصن، وأن نباشر بتنظيمها وضبطها منذ البداية، كي لا تصبح في ما بعد فوضى ويعم البلاء.

 

 

على لبنان التأقلم مع التقنيات والتكنولوجيات الحديثة

والواقع إن هذا لهو التحدي الكبير، بدليل ما تكشف عنه شركة الإستشارات الدولية “ماكينزي” ومركزها الرئيس “نيويورك” بأن “هناك إحصاءات كبيرة عن عدد كبير من المناصب والمهن والوظائف، بدأ فقدانها في العالم مع دخول العالم الرقمي والاسلوب الذكي، كمهنة المحاسبة والطب والمحاماة بأسلوبها الكلاسيكي، حيث أن العلم أصبح مندمجاً ومنكباً على التنمية التكنولوجية لهذه المجالات، وعلى صاحب أي مهنة أن يكون محصناً تقنياً وتكنولوجياً وملماً بأمور البرمجيات على مستوى عال، كي يواكب العصر ويخدم المتطلبات المهنية، مهن كثيرة كالمحاسب والمترجم وموظف التذاكر مهددة بالانقراض”.

ووفق “ماكينزي “فإن مهناً عديدة لن تتغير بالاسم والشكل، لكنها ستتغير بطريقة الممارسة والتعامل، والنطاق سوف يبتعد عن الكلاسيكية، لتكون أكثر المهن ازدهاراً في الفترة المقبلة (إلى العام 2030) هي تلك المرتبطة بصورة وثيقة بالمهارات التقنية. فعلى الطبيب أن يتدرب على استعمال الآلات الروبوتية الهندسية، وآلات التصوير العالية الدقة في البرمجة، وسيصبح بإمكانه إجراء التشخيص والعملية من دون وجوده شخصياً. والمحاسب عليه أن يطور من ذاته المهني والتخصصي بطابع إدماجي لمهارات المحاسبة والبرمجة وتقنيات اختصاصه، كما يتوجب على المحامي أن يتدرب ويصقل نفسه جيداً في أمور الالواح التقنية، لأن طريقة التحضير لنص الدعوى او لائحة قانونية معينة ستصبح عن طريق إستعمال تطبيق معلوماتي قانوني. هذا غيض من فيض لكثير من الامثلة لحالات الغد، بدليل أن بعض المتاجر التقنية التابعة لـ “امازون” تخلت عن وظيفة “الكاشير” وما هذه سوى البداية.

وفي الختام وانطلاقاً من أن سوق المهن عالمي والتأثير عالمي، يبدو أن لا خيار أمام لبنان سوى السير تدريجياً في هذه المسيرة العالمية خلال العقود المقبلة، لأنه سيتأثر حكما كمّاً ونوعاً، وعلى الأرجح بالتزامن مع ما تخلقه هذه الثورة من مهن وفرص عمل جديدة، فإنها ستؤدي الى إندثار أخرى. فالانسان غير المؤهل وغير المدرب على التأقلم مع التقنيات والتكنولوجيات الحديثة لا مكان له في السوق، وبمعنى آخر هذا يحتّم على الشباب اللبناني الباحث عن عمل التحضر جيداً وبأطر مختلفة.

 

 

نصف خريجي الجامعات عاطلون من العمل

ترفد الجامعات في لبنان سوق العمل بـ 25 – 30 ألف طالب في مختلف الاختصاصات (5 آلاف مهني والباقي جامعي)، يستوعب السوق سنوياً بين 12 و13 ألف وظيفة. تحظى قلّة منهم بوظيفة أو مهنة تتناسب مع إختصاصها الجامعي، في حين تعاني الغالبية صعوبة في إيجاد الوظيفة الملائمة.

والبارز في هذا السياق هو عدم التجانس بين مهارات الخريجين ومتطلبات سوق العمل، لجملة من الأسباب، أبرزها النقص في التوجيه المهني والأكاديمي. وأبرز الاختصاصات التي تتخرّج من الجامعات اللبنانية سنويّاً تتركز حول إدارة الأعمال، علم النفس، التمريض، علوم الحياة، التربية على أنواعها، المحاماة (خريجو العلوم السياسيّة والحقوق)، بالإضافة إلى المحاسبة والآداب (الأدب العربيّ والفرنسيّ) والتاريخ. فهل فعلاً يحتاج سوق العمل والمجتمع على حدٍ سواء لهذا النوع من الاختصاصات ولهذا الكمّ من الخريجين؟ أَم أنَّ المبادرة باتت أوتوماتيكيّة وغير مدروسة أو ممنهجة بهدف الاستسهال والاستهتار وللحصول فقط على شهادة جامعيّة، من دون الالتفات إلى أهمّيّة نوعيّة هذه الشهادة المرجوّة، وإستثمارها بشكل مُناسِب (الاختصاص المناسب في المكان والزمان المناسبين)؟.

وليس غريباً أن يتوجه المتخرج اللبناني إلى مهن لا تنسجم مع إمكاناته الأكاديمية ووصول نسبة البطالة في صفوف المتخرجين الى ما بين 55-60% في ظل غياب أي دراسة حديثة لحاجات السوق المحلي. تشكل المنارة الاكاديمية لتوجيه الطلاب إلى إختصاصات حديثة تلبي هذه الحاجات، كما أن نوعية التعليم تبدو متفاوتة في الجامعات اللبنانية. فإن البحوث الأكاديمية تبدو أيضا نادرة، ذلك أن 10 جامعات فقط من مجموع 49 (واحدة رسمية و 48 خاصة) تقوم بإجراء بحوث علمية، ومدة الدراسة فيها تتراوح بين 3 و7 سنوات وأحيانا أكثر.