Beirut weather 16.41 ° C
تاريخ النشر December 8, 2024
A A A
لا نهوض للاقتصاد… قبل إصلاح القطاع المصرفيّ
الكاتب: محمد فحيلي - أساس ميديا

لبنان، الذي كان يوماً يُعرف بأنّه “سويسرا الشرق” بفضل قطاعه المصرفي المتين واقتصاده الديناميكي، يعيش اليوم واحدة من أخطر الأزمات النقدية والاقتصادية في تاريخه. هذه الأزمة ليست وليدة اللحظة، بل هي نتيجة تراكم عقود من السياسات الخاطئة التي افتقرت إلى الكفاية والشفافية، إلى جانب فساد مستشرٍ أفرغ المؤسّسات من قدرتها على الاستجابة الفعّالة… فكيف السبيل إلى إصلاح هذا القطاع؟ وما هي الخطوات اللازمة؟

 

أصبح الوضع النقدي في لبنان شديد التعقيد، نتيجة تداخل الأزمات السياسية والمالية والاقتصادية. فمصرف لبنان يفترض أن يكون حجر الزاوية في إدارة الاقتصاد وحمايته. وبدلاً من اعتماد سياسات نقدية رشيدة، قام بتوظيف أموال المودعين في استثمارات غير مدروسة وبمخاطر عالية، متجاهلاً مبادئ الإدارة السليمة للمخاطر. كما اعتمد المركزي حصريّاً على “تطمينات” الطبقة السياسية لتغطية العجز، في حين واصل تمويل السلطة السياسية لعقود طويلة، وهو ما أدّى إلى إضعاف الثقة بالنظام المصرفي وزيادة عمق الأزمة.

تجاوزت الأزمة حدود القطاع المصرفي لتصبح أزمة وجودية تهدّد الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي. وفي ظلّ هذا الواقع، يصبح الحديث عن إصلاح القطاع المصرفي وإعادة بناء الثقة بمؤسّساته ليس خياراً، بل ضرورة ملحّة لمواجهة التحدّيات الراهنة وفتح الطريق نحو الاستقرار والتنمية.

على الرغم من الأزمات المتعدّدة، نجحت السلطات النقدية، من خلال سلسلة من التعاميم تحت عنوان “إجراءات استثنائية”، في التخفيف من حدّة الأزمة وتداعياتها. لكن لن ولم تكن ترقى إلى مستوى العلاج، ولطالما كرّر حاكم مصرف لبنان الدكتور منصوري القول: يد واحدة لا تصفّق. وهنا يقصد أنّ شراكة السلطات التنفيذية في إصدار المراسيم، والتشريعية في إصدار القوانين، أساسية لعودة الانتظام إلى القطاع الماليّ وإنقاذ المودعين.

يجد المواطن اللبناني نفسه في مواجهة أزمات متداخلة ومعقّدة تزيد من العبء اليومي عليه
أهمّ هذه التعاميم لجهة تنظيم عمليّات السحب من الودائع بالعملة الأجنبية هي التعاميم الأساسية 158 و166 (ومن قبل ذلك التعميم الأساسي رقم 151). هذه السحوبات، بقيم تراوح بين 150 و400 دولار شهرياً، رفعها مصرف لبنان 3 أضعاف في شهر تشرين الأول الفائت، ثمّ ضعفين في تشرين الثاني وكانون الأوّل، وسرّب في بعض المواقع أنّها قد تصير مضاعفة بشكل دائم، أو ربّما ترتفع إلى أكثر من الضعفين بتعاميم جديدة، على أن يدفعها من المليارَي دولار اللذين أضافهما المصرف إلى احتياطه الإلزامي في العام الأخير. وهذه الدفعات تُقدّم كحلول مؤقّتة لمعضلة عميقة. لكن في الواقع، هذه الإجراءات بعيدة عن معالجة الأزمة، إذ لا تقدّم سوى حلول ظرفية دون التطرق إلى جذور المشكلة.

رفع الحدّ الأدنى للأجور ضرورة

لا يخفّف السماح بالسحوبات المتواضعة بالدولار الفريش من أرصدة الحسابات المعنونة بالدولار المحلّي (المعروف باللولار)، وتعديلها صعوداً بين الحين والآخر، من العبء المعيشي للمواطن اللبناني، الذي يواجه يوميّاً أزمة التضخّم وانخفاض القدرة الشرائية لدخله ومدّخراته.

الاقتصاد

فمع تزايد الضغوط الاقتصادية، أصبح الحديث عن رفع الحدّ الأدنى للأجور إلى 600 دولار شهرياً (أو ما يعادل اليوم حوالي 52 مليون ليرة لبنانية على سعر الصرف المعتمد حالياً على منصّة صيرفة) مطلباً أساسياً لضمان حياة كريمة. وهذا الرفع يحتاج إلى قرار سياسي بالاتّفاق مع الهيئات الاقتصادية وأرباب العمل، وليس وظيفة مصرف لبنان.

هذه السحوبات لا تكفي لتلبية احتياجات الأسر اللبنانية الأساسية، وتأتي لمصلحة البعض (من يستفيد من سقف الـ800 دولار) ولا تنفع الآخرين (من يستفيد من سقف الـ300 دولار)، وبالإجمال لا تخدم الاقتصاد الوطني. المشكلة لا تتوقّف هنا. هناك مجموعة من اللبنانيين، المتقاعدين، الذين يعتمدون كليّاً على هذه السحوبات لتمويل احتياجاتهم اليومية، بينما الجزء الآخر، من غير المحتاجين إلى هذه السحوبات، يقوم بتخزين السيولة في المنازل، وهو ما يحرم الاقتصاد من أيّ منفعة تُذكر.

ترك المودعين والمواطنين والاقتصاد الوطني تحت رحمة المصرفيّين والظروف، التي باتت تتحكّم بمصير أموالهم ومعيشتهم بشكل شبه مطلق
من أبرز سمات الأزمة الحالية هو انعدام الثقة بين مكوّنات المجتمع اللبناني (من أفراد ومؤسّسات) والمصارف. تتجلّى هذه الثقة المفقودة في عدّة أوجه:

1- يعاني المودعون من إجراءات معقّدة ومراوغة من قبل المصارف. وكانت للوضع الأمنيّ في لبنان حصّة الأسد في هذه العراقيل.

2- كثير من اللبنانيين الذين أودعوا أموالهم قبل الأزمة، على أمل أن تكون ودائع تقليدية، فوجئوا بأنّ أموالهم تمّ توظيفها في استثمارات ذات مخاطر عالية نسبياً وليست محفوظة في ودائع تقليدية، مثل الأسهم التفضيلية (Preferred Shares) أو المرابحة الإسلامية، أو استثمارات أخرى كالـ Global Depository Receipts (GDR). هؤلاء المواطنون (الذين سُلبت منهم صفة المودعين) باتوا ضحايا لأداء مصرفي عشوائي وغير مسؤول، ولم يتحرّك مصرف لبنان لإنقاذهم حتى يومنا هذا.

3- على الرغم من الدعوات المتكرّرة لإقرار قانون يُنظّم السحوبات من أرصدة الحسابات المكوّنة بالعملة الأجنبية ويوحّد التعاملات النقدية، ترفض الطبقة السياسية إقرار قانون كهذا، ويلتزم القطاع المصرفي الحياد السلبي وكأنّه يرفض المبادرة إلى إطلاق عجلة ترميم الثقة كخطوة أساسية لعودة الانتظام للقطاع المالي في لبنان. والنتيجة هي ترك المودعين والمواطنين والاقتصاد الوطني تحت رحمة المصرفيّين والظروف، التي باتت تتحكّم بمصير أموالهم ومعيشتهم بشكل شبه مطلق.

يأتي هذا الأداء الخاطىء من قبل النافذين على الساحة النقدية، أي المصارف بالدرجة الأولى لأنّهم الجهة المؤتمنة على ودائع الناس، وهم الجهة الرافضة للمبادرة لترميم الثقة المفقودة منذ أكثر من أربع سنوات. كلّ هذا ساهم في انعكاس الأزمة النقدية بشكل مباشر وقاسٍ على الاقتصاد اللبناني.

مصرف لبنان يفترض أن يكون حجر الزاوية في إدارة الاقتصاد وحمايته
في المقلب الآخر، يطالب مصرف لبنان، ويكرّر الطلب من الطبقة السياسية لإقرار القوانين التي تساهم في إعادة الانتظام للقطاع المالي، لكن لا حياة لمن تنادي.

ما بين غياب الثقة بالمصارف، وتمنّع المقتدر منها عن العودة إلى خدمة الاقتصاد الوطني، وإجراءات مصرف لبنان التي تُعتبر مسكّنات مؤقّتة (“إجراءات استثنائية”، بهذه الكلمات ابتدأت كلّ تعاميم مصرف لبنان خلال سنوات الأزمة)، يجد المواطن اللبناني نفسه في مواجهة أزمات متداخلة ومعقّدة تزيد من العبء اليومي عليه.

 

لم تعد هذه التحدّيات الاقتصادية مجرّد أزمات قطاعية بل باتت تهدّد استقرار النظام الاقتصادي والاجتماعي ككلّ، وهو ما يُبرز الحاجة الملحّة إلى إصلاحات جذرية نتناولها في الجزء الثاني.

* باحث في الشؤون الاقتصادية والنقدية.