Beirut weather 16.88 ° C
تاريخ النشر December 9, 2025
A A A
كيف يقرأ حلفاء أميركا وخصومها استراتيجيتها؟
الكاتب: ناصر قنديل

كتب ناصر قنديل في “البناء”

– رغم الغلاف الأيديولوجي الذي تمّ تقديم استراتيجية الأمن القومي الأميركي في ظلاله، عبر القول إنها تطوير ترامب لنظرية مونرو، ونظرية مونرو كانت موجّهة لإحكام السيطرة على الفضاء المحيط بأميركا وخصوصاً في أميركا الجنوبية بتوصيف الوجود الاستعماري الأوروبي فيها خطراً على الأمن القومي الأميركي، واعتبار ذلك نقطة انطلاق لا يجوز التهاون بتأمينها كي يتسنى لأميركا السعي إلى العالمية، بينما ترامب يسعى لإعادة أميركا من العالمية التي بلغت ذروتها وباتت مهددة بالأفول، ليمنح الانسحاب نحو الفضاء القاري الأميركي صفة الهجوم، وهو احتيال على الهزيمة بخداع بصري يشبه الانتقال من مموّل وراعٍ لأوكرانيا في الحرب مع روسيا إلى وسيط يسعى لتسوية ويحيل عبء الهزيمة على العاتق الأوروبي.

 

– الآن وقد ألقى ترامب حجراً في بحيرة النقاش حول الاستراتيجيات، فكيف تلقى حلفاؤه وخصومه استراتيجيته الجديدة، ولنبدأ من الحلقة الأشد سهولة على الفهم، وهي الحلقة الروسية التي أبدت انفتاحاً على التأسيس لصفحة جديدة في العلاقات الأميركية الروسية انطلاقاً من بلورة حل ينهي الحرب الروسية الأوكرانية يراعي المصالح الأمنية العليا لروسيا، دون أن تظهر روسيا روح الشماتة بأوروبا التي ورثت مكانة روسيا في وثائق استراتيجيات الأمن القومي الأميركي السابقة، باعتبارها بيئة تتعرّض فيها الحريات وحقوق الإنسان للانتهاك دون ذكر أي توصيف مشابه لروسيا، بينما في الصين حذر وانتباه نحو كل كلمة وكل حرف في وثيقة استراتيجية الأمن القومي الأميركي، رغم تجاهل الوثيقة للأوضاع الداخليّة في الصين والابتعاد عن الحديث عن معايير حقوق الإنسان والحريات، والتأكيد على صرف النظر عن التدخل في وضع قوالب للأنظمة الصالحة والسعي إلى تعميمها، حيث يبقى القلق الصيني أبعد من الأمن الإقليمي الذي تتمسك الوثيقة ببناء حلف مناهض للصين فيه، قوامه تعاون أميركي ياباني كوري جنوبي فليبيني، ومحور القلق الصيني هو أن الوثيقة كلها مصاغة بروح واحدة هي كيفية مواجهة الصين في كل ساحات العالم، ولو بلغة ناعمة، وتواضع يفرضه ميزان القوى الاقتصادي والتكنولوجي الراجح لحساب الصين، حيث تنال الصين نصيباً في الحديث عن أوروبا وعن أفريقيا وعن الشرق الوسط وعن الشرق الأقصى، وخصوصاً عن أميركا الجنوبية وصولاً إلى الداخل الأميركي، وهي دائماً الخصم الذي يجب التخلص من حضوره أو تقليص نفوذه.

 

– بين الحلفاء مَن سوف يشعر بالراحة لوثيقة استراتيجية الأمن القومي الأميركي، وفي طليعة هؤلاء الحلفاء لأميركا الخليجيون، الذين سوف يلفت انتباههم، الإعلان الصريح عن التخلي عن نظريات تصدير النموذج الديمقراطي ووضع مقياس للإصلاح السياسي في دول الأنظمة التي ليس فيها انتخابات وبرلمانات، كان دائماً مصدر قلق خليجي، حتى تجرأت هذه الوثيقة على توصيف الممالك والإمارات الخليجية بالدول التي اختارت نموذجها الخاص للحكم النابع من تقاليدها وعاداتها، وأن على أميركا أن تتأقلم مع تقبل ذلك والكف عن لعب دور الحاكم العالمي الذي يريد بناء نموذج موحد للحكم، وسوف لا يقل أهمية بالنسبة لدول الخليج، تراجع مكانة “إسرائيل” كبوصلة يتم رسم السياسات الأميركية على هديها، والأكيد على رفض الانخراط في حروب لا تنتهي، والواضح أن القصد هي الحروب التي تريد “إسرائيل” لأميركا خوضها، وسوف ترتاح دول الخليج لعدم طي صفحة الخلاف مع إيران لكن من دون مشاريع حروب، لأن هذا يرفع مكانة دول الخليج كمكافئ إقليمي، مع تراجع الرهان على دور إسرائيلي يضعف مكانة إيران، وما يصح على دول الخليج يصح بنسبة أقل على تركيا التي يعقد علاقتها بالأمن القومي الأميركي مشهد سورية الذي لن تحسم واشنطن مصير التجاذب التركي الإسرائيلي فيه، خصوصاً مع تصنيف جماعة الإخوان المسلمين على لوائح الإرهاب.

 

– من الحلفاء الأقرب سوف تكون أوروبا و”إسرائيل” في مكانة متشابهة، حيث تخوض كل منهما حرباً لا يمكن مواصلتها دون أميركا، التي تقول علناً إن الحروب في مناطق النزاع خارج القارة الأميركية لم تعد تعنيها، والحديث عن حروب لا نهاية لها رسالة واضحة لـ”إسرائيل”، وتمجيد الاتفاقات الهشة للتهدئة في المنطقة لا يطمئن “إسرائيل”، كما هو الحال بالنسبة لأوروبا بغياب أي انتقاد لروسيا مقابل كيل الانتقادات القاسية لأوروبا، وبدلاً من أولوية سابقة كانت تقوم على إضعاف روسيا ومحاصرتها، صار الحديث عن تسوية تنهي الحرب تقوم غالباً على مراعاة المصالح الروسية على حساب أوكرانيا وأوروبا، وبالرغم من أن أميركا لن تجبر أوروبا ولا “إسرائيل” على التخلي عن حروبهم، إلا أنهم يدركون أن حروبهم لا قدرة على خوضها دون انخراط أميركي كامل فيها، حيث يقول لهم الأميركي بصراحة ما حكّ جلدك مثل ظفرك، وعليكم الاعتماد على أنفسكم.

 

– تقديم الوضع في سورية كإشكالية معقدة تحتمل المخاطر لافت، وهو مختلف عن توصيفات الخطاب السياسي، وتجاهل الملف النووي الإيراني لافت ايضاً، وحصر الحديث عن مخاطر النفوذ الإيراني وليس إيران قائدة محور الشر ومصدّرة الإرهاب كما كان يرد في الوثائق السابقة، أما بالنسبة لقوى المقاومة من لبنان وغزة إلى العراق واليمن فلا إشارات خاصة، وحديث عن سلاسة الملاحة ربما يخص اليمن، لكنه يحتمل السعي لتفاهمات تضمن ذلك مثله مثل مضيق هرمز.

 

– الوثيقة نقطة تحول فارقة لا بد من مراقبة كيف سوف تسلك طريقها للتطبيق وكيف سوف يضغط خصومها داخل أميركا وخارجها لتعطيلها، والأيام القادمة سوف تكون حبلى بالكثير، خصوصاً مصير المواجهة حول خيار الحرب على فنزويلا الذي ينقسم الكونغرس حوله.