Beirut weather 20.41 ° C
تاريخ النشر July 4, 2020
A A A
كيف نوقف موتنا الآتي؟
الكاتب: بيار ابي صعب - الاخبار

سيبقى الثالث من تموز 2020 يوماً أسود، يوماً شديد السواد، يوماً فظيعاً، في عمر الجمهوريّة المشرّعة على الحداد والكوارث المقبلة. جمهوريّة الذل، جمهوريّة الظلام الحالك، جمهوريّة الإفلاس، جمهوريّة الجوع، جمهوريّة اللصوص، هي حكماً جمهوريّة الموت. أمام الموت المحتوم، تبدو الخيارات محدودة: فإما أن ننتظره ببرود ولامبالاة، أو بذعر وقلق، وإما أن نذهب نحن إليه، فنختصر عذاب الانتظار. هذا ما فعله، قبل ظهر أمس علي الهق، في شارع الحمرا البيروتي، وما فعله مصطفى حبلي في منزله في جوار صيدا… كأنّ يداً خفيّة نسّقت هذا الطقس الذي ليس إلا فاتحة التراجيديا، واستباقاً لجنازتنا الجماعيّة الآتية. مسدس هنا، وحبل مشنقة هناك: رسالة وداع إلى شعب عاجز مستسلم لقدره، إلى دولة منهارة لم تحسب يوماً حساباً لأبنائها، إلى طغمة حاكمة لم يبق لها ما تسلبه إلا أرواحنا، بعدما أخذت كل شيء وما زالت تطالب بالمزيد. رسالة وداع إلى وطن مستحيل لا يقدم لنا إلا الموت. فلنمسرح هذا الموت إذاً، فلنستملكه، فلنجعله احتفالاً تراجيدياً… هذا هو احتجاجنا – بل انتقامنا – الأخير.
الموت خلاصاً وحيداً متبقياً في بلد منهار لا أحد يجرؤ على إنقاذه؟ لأن إنقاذه ليس رسالة إنسانية، ولا فعل خير، ولا تمارين حسابيّة، ولا مهمّة سامية من النوع الذي يضطلع به مبشّرو المنظمات غير الحكومية وخبراؤهم. الخلاص الوحيد الممكن هو وضع حدّ للسياسات المسؤولة عن بؤسنا وانهيارنا، تلك التي دفعت بنا إلى أحط دركات الفقر والجوع والإفلاس. هناك من خدعنا عقوداً، ومن سرقنا عقوداً، وما زال يمسك بزمام الأمور، بعنجهية وثقة وفوقية واحتقار للشعب. هناك من أضاع فرصاً ثمينة لتفادي الأسوأ، عبر تصحيح أخطائه وضبط فساده، ولجم جشعه. هناك من يواصل حتى صباح مقتلكما، عرقلة الحلول الاقتصادية البديلة، لأن سجّاننا الأكبر وسيّده ومعلّمه، قرر ذلك. ولأن المطلوب اليوم تجويعنا لإخضاعنا واستباحة حقوقنا. في حين أنه الوقت المثالي لإعلان القطيعة مع هذا النظام الطفيلي التابع، وبناء دولة مدنية عادلة، ذات سيادة فعلية في اختيار شركائها وحلفائها، وإصلاح فعلي وجذري، واقتصاد منتج لا مكان فيه للسماسرة والمرابين والقوادين ومصاصي الدماء.
الثالث من تموز 2020 يوم أسود في سجل الجمهوريّة التي لن تتذكّر شيئاً. يُفجع الأهل والزملاء، ويغضب الناس قليلاً أو كثيراً، ويتبارز الكتبة في فنون التباكي والغضب المعلّب، وتستغل الآلة الإعلاميّة الفاجعة لذرف دموع التماسيح وإنعاش الاستعراض الآسن، ويمشي القتلة الفعليّون في الجنازة، يتقاذفون المسؤوليات والاتهامات، يتاجرون بدماء علي ومصطفى، كما فعلوا من قبل بدماء جورج زريق الذي انتحر مطلع العام الماضي أمام مدرسة ابنتيه في الشمال، وكما فعلوا بدماء ناجي الفليطي الذي انتحر في عرسال أواخر العام الماضي… ثم تعود طاحونة التجويع والإفقار والنهب المنظّم إلى حركتها «الطبيعيّة».
ماذا جئت تفعل في شارع الحمرا يا علي، بعدما جهّزت قرائن اتهامنا بعناية؟ المسدس والعلم اللبناني والسجل العدلي النظيف وتلك الورقة البيضاء التي كتبت عليها بالأحمر العريض، بخط متوتّر نزق، السطر الأوّل من أغنية زياد الرحباني «أنا مش كافر». هل كانت كلمات الأغنية تدور في رأسك بشكل متواصل في البرهة الفظيعة التي سبقت اللحظة الحاسمة؟ ‫«بس الجوع كافر/ بس المرض كافر/ بس الفقر كافر والذل كافر…». أغنية السخرية والغضب، صارت نشيد اليأس والموت. لا أحد سيعرف إن كنت تعمدتَ اختيار «مسرح المدينة» الذي يصارع هو الآخر من أجل البقاء! يا لها من خلفية نموذجيّة لهذه المأساة. من سيكتب قصتك، من سيكتب تاريخنا الحقيقي؟ صاحب المتجر الصغير المتعثّر في الضاحية، صار بطلاً تراجيدياً. ومثله سائق التاكسي الذي لا يملك ما يشتري به دواءً لزوجته المريضة، تركها تنام هي وابنتهما، وتسلّل على رؤوس أصابعه إلى حبل المشنقة. هذا الحبل ليس لرقبتك يا مصطفى. نريده أن يلتف على رقاب الذين ينهشون لحمنا الحي منذ عقود. هؤلاء الذين نهبوا البلد دهراً، ثم هرّبوا مليارات الدولارات إلى الخارج كي تبقى أنت معدماً وتنقطع بك السبل. والآن يريد أصحاب المصارف وحاكمهم ونادي الواحد في المئة تجريد الدولة من أملاكها، والسطو على آخر ما نملك. يخططون لسرقته من درب الأجيال المقبلة، ليمسحوا خسائرهم ومنهوباتهم، ويغسلوا فساد الحكّام. وبعدها يستأنف رجال المال والأعمال والسياسة – وهم واحد في النهاية – بزنسهم القديم، ويعيدون إحياء «الأعجوبة الاقتصاديّة اللبنانيّة».
حبل المشنقة لم يكن من المفروض أن يلتفّ على عنقك، بل على أعناق أباطرة النظام الطائفي المافيوي واحداً واحداً، أولئك الذين سرقوك وأذلّوك وتركوك تجوع، فيما هم منشغلون باحتكاراتهم، وكارتيلاتهم، وصفقاتهم، ومحاصصاتهم، ومكرماتهم، وسمسراتهم، وشركاتهم، ومقاوليهم، وأرصدتهم، وثرواتهم المنهوبة من تعبنا. تصوّر أنّهم لم يرتدعوا حتّى بعدما دقت طبول الإنذار! انظر، من حيث أنت الآن، كيف يقفون على شفا الهاوية ماضين في تناتش الامتيازات والحصص، وتأجيج سعار العصبيات الطائفية. وعلينا أن نعترف هنا، بأننا تركناهم طويلاً يفعلون كل ذلك بنا. تركناهم يتلاعبون بالقوانين، ويساومون على كرامتنا، ويهرّبون العملاء، لينقذوا ثرواتهم الحرام، وزعاماتهم الضلال، وطموحاتهم المستقبليّة الآثمة. أما زال هناك من مستقبل؟ تركناهم يا مصطفى، تركناهم يا علي. بل دعمناهم، وصفّقنا لهم، وهتفنا باسمهم، ودافعنا عنهم، وأعدنا انتخابهم وانتخاب أولادهم ونسائهم وأخواتهم… يدُنا سنّت، بكل طيب خاطر، السكين التي ستذبحنا.
اليوم، من خلف الهتافات المجروحة وصرخات الغضب، نسمعكما جيّداً. وصيّتكما إلينا واضحة: أن نوقف موتنا الآتي. لكن كيف؟ ما لم نصبح شعباً جديراً بهذا الاسم، قادراً على مواجهة الكارثة، وتغيير مجرى التاريخ، فكلّنا قتَلة علي، وكلّنا قتَلة مصطفى، وناجي، وجورج… وكلّنا سنموت مثلكم في يوم لم يعد بالبعيد، بؤساً ويأساً وقهراً وغضباً وجوعاً، وقد تخلّى عنّا العالم أجمع.