Beirut weather 18.41 ° C
تاريخ النشر February 15, 2018
A A A
كيف ستتغير وظيفتك في المستقبل بسبب التكنولوجيا؟
الكاتب: برايان لوفكين - بي بي سي

عملت طيلة سنوات حياتي المهنية مع أناس لم يحدث أبداً أن التقيتهم شخصياً. من ناحية نظرية، يمكنني قضاء يوم كامل في العمل دون أن أقابل بشراً وجهاً لوجه. لكن هل يمكن أن تصبح هذه العزلة المفروضة ذاتياً هي النمط السائد لممارسة العمل في المستقبل؟
*

تظهر دراسات حديثة أنه في الولايات المتحدة ارتفع عدد العاملين عن بعد بنسبة 115 في المئة، بين عامي 2005 و2017.
وفي مطلع عام 2015، استخدم حوالي نصف مليون شخص برنامج “سلاك” للمحادثات الجماعية عبر الإنترنت بشكل يومي، والذي غالبا ما يستخدم من قبل مجموعات العمل المختلفة. وبحلول أيلول الماضي ارتفع ذلك العدد إلى ستة ملايين شخص.
وفي 2017 كشف استطلاع أجرته مؤسسة غالوب للأبحاث عن أن 43 في المئة من بين 15 ألف أمريكي شملهم الاستطلاع يقولون إنهم قضوا بعض فترات حياتهم في العمل عن بعد، وذلك بزيادة قدرها أربعة في المئة عن عام 2012.
وتوصلت دراسة لمؤسسة “يوغوف” أن 30 في المئة من موظفي الشركات في بريطانيا يقولون إنهم يشعرون بإنتاجية أكثر إذا عملوا من خارج المؤسسة التي ينتمون إليها.
كيف يمكن أن نشعر إذا كتب علينا ألا نعمل مع زملاء لنا مرة ثانية وجهاً لوجه؟ هل يعني ذلك شيئاً؟ وهل تغيرت الأمور إلى حد بعيد لدرجة ربما لم نلاحظ معها هذا التحول؟ لكن انجذابنا نحو العمل منفردين قد يكون له أثر عميق على صحتنا العقلية والجسدية، وعلى الطريقة التي تدار بها شركاتنا، وحتى الشكل الذي ستُصبح عليه مدننا في المستقبل.

كيف يمكن أن يبدو مكان العمل الخالي من البشر؟
في 2018، يبدو أننا في منتصف مرحلة يفضل فيها الناس العمل من البيت، وما يوفره ذلك من شعور بالاسترخاء والراحة. لكن علماء المستقبل يتوقعون أمراً أقرب إلى الخيال العلمي في غضون عقود قليلة.
فيوم العمل يمكن أن يبدأ على سبيل المثال بتكليف شخصيات افتراضية (روبوتات حديثة) تنوب عنا في أماكن العمل، بعرض مهامنا وأهدافنا اليومية، التي نغذيها بها عبر الإنترنت، بدلاً من الحضور بأنفسنا.
يقول جيمز كانتون، المدير التنفيذي لمعهد غلوبال فيوتشرز: “شخصيتي المهندسة رقمياً يمكن أن تتفاعل مع العملاء والزبائن والموظفين حول العالم في وقت واحد”. ويضيف كانتون، والذي عمل مستشاراً لثلاث إدارات أميركية في مجال اتجاهات أماكن العمل المستقبلية: “أستطيع توجيهها كيفما أشاء، ويمكن أن يكون لديها شكل معين من أشكال اتخاذ القرارات، التي تعتمد فيها على نفسها”.
ويعمل كانتون حاليا مع علماء آخرين لتطوير مثل هذه الأفكار، ويقول: “يبدو أنه ستكون هناك إمكانات هائلة لأجهزة مزودة بكمبيوتر فائق القدرة، متصل بخدمة التخزين السحابي للمعلومات”.
لكن هذه الأشياء ستبدو في النهاية على الشكل الذي نريده لها أن تظهر عليه. “فالأطفال ربما يرغبون في اختيار شكل الديناصور، والرجال يمكن أن يفضلوا شخصية افتراضية في شكل الممثلة إيما ستون”. وقد بدأ بعض موظفي المكاتب بالفعل في التخلي عن التعامل وجهاً لوجه مع الآخرين لصالح ما يشار إليه على نطاق واسع بالعمل المرن، أو العمل عن بعد. لكن إذا كان الإنسان “مخلوقاً اجتماعياً”، أفلا يؤدي الجلوس منحنياً أمام الشاشات اللامعة طوال اليوم إلى الإضرار بصحتنا العقلية، وذكائنا العاطفي؟

كيف يؤثر العمل منفرداً على صحتنا العقلية؟
يعتقد البعض أن زيادة العمل عن بعد ستؤدي حتماً إلى ملل الموظف في أحسن الأحوال، وزيادة مستويات الاكتئاب في أسوأ الأحوال.
تقول فيث بوبكورن، عالمة المستقبل التي تعمل مستشارة لشركات كبرى، مثل “AT&T” و “أي بي إم”، و”كوكاكولا”، فيما يتعلق بمستقبل أماكن العمل: “سيكون عليك الذهاب إلى مكان ما، وأن تجد بعض التسلية أيضا”. وهذا التغيير قد يشمل الشركات التي تحظر على الموظفين مشاهدة مقاطع فيديو “يوتيوب”، أو الاستماع إلى الموسيقى في أوقات راحتهم. مع ذلك، تعتقد بوبكورن أن عمل الموظفين عن بعد سيشجعهم حتماً على الخروج في “رحلات ترفيهية” من وقت لآخر، لكن في المقابل يمكن أن يعني ذلك أيضا زيادة في ايام العطلات، والانسحاب رويدا إلى عوالم الواقع الافتراضي، وحتى الإدمان على المواد الإباحية.

ويقول ديفيد بالارد، الطبيب في الجمعية الأميركية لعلم النفس: “بالنسبة للبعض، لا يعتبر العمل عن بعد شيئاً مناسباً. فغياب الاحتكاك والتعامل غير الرسمي مع زملاء العمل خلال اليوم يؤثر عليهم سلبيا”. ويضيف بالارد: “من المؤكد أنه يصبح من الصعب بناء تلك الرفقة والزمالة عندما لا تكون موجودا بجسدك بين زملائك تشاركهم الطعام في غرفة الطعام، فهذا بالتأكيد يغير من وتيرة الحماس والنشاط للعمل”.
لا يوجد شيء يمكن في الواقع أن يكون بديلاً عن التواصل والتفاعل وجهاً لوجه. فالأشياء التي تصل إلى ذهنك عند لقاء شخص ما – مثل لغة الجسد، وطريقة الكلام، والحدس الذي يخبرك ما إذا كان الشخص أمامك منزعجا أو متوترا، أو عندما يكون شيء ما غير مفهوم في المحادثة- كلها من المزايا التي تتوفر أمامنا في أماكن العمل، ولا تستطيع التكنولوجيا وحدها توصيلها إلينا.

تقول كيت ليستر، رئيسة شركة “غلوبال وركبليس أناليتيكس” المتخصصة في تحليل استراتيجيات أماكن العمل، إن الذكاء العاطفي الاجتماعي في تراجع حاليا. وتضيف: “يعود ذلك جزئياً إلى أن الناس منهمكون باستمرار أمام أجهزة الكمبيوتر بدلاً من وجودهم في ساحات الملاعب”.

وقد تتبع الباحثون على مدى عدة سنوات تراجعاً ثابتاً في الذكاء العاطفي. ففي عام 2010، توصلت دراسة صادرة عن جامعة ميشيغان إلى أن طلاب الجامعة أظهروا تعاطفا أقل مع زملائهم بنسبة 40 في المئة مما كان لدى الطلاب قبل عشرين عاماً.

الجدل حول العمل من المنزل
من الوهلة الأولى يبدو أن الشركات ستتمكن من توفير الملايين من الأموال وستحقق مكاسب من منح الموظفين فرصة العمل المرن. فحسب شركة “غلوبال وركبليس”،يمكن لكل شركة توفير 11 ألف دولار من كل موظف في العام، من نفقات تدخل في ثمن أو أجرة البناية، وفواتير الكهرباء.
لكن إدارة مكان عمل موجود بكامله خارج المكاتب يمكن أن تكون لها تكلفة باهظة وغير مرئية أيضا.
ففي العام الماضي، تراجعت شركة “أي بي أم” عن سياستها المتعلقة بالعمل المرن وذلك عندما استدعت الموظفين ليعودوا إلى مكاتبهم، بعد أن أعلنت عام 2007 أن 40 في المئة من موظفيها البالغ عددهم 400 ألف، لم يعودوا يداومون في مكاتبهم التقليدية.

وفعلت شركة ياهو شيئاً مشابهاً عام 2013، حيث ورد في وثيقة مسربة موجهة إلى موظفي الشركة أن بعض أفضل القرارات والرؤى داخل الشركة جاءت من “نقاشات جرت في ممرات الشركة، وفي الكافتيريا، ومن مقابلة أناس جدد، ومن الاجتماعات واللقاءات المرتجلة في المكتب”.
ومع ذلك لا توجد معلومات يعتد بها تقول إن الشركات ستخسر أي أموال عند السماح لموظفيها بالعمل عن بعد بدلاً من الدوام في المكاتب. والخوف الدائم هو أن يصبح هؤلاء الموظفون أقل فعالية، أو أقل ولاءً.
والأهم في هذا السياق أيضا، هو “أنك لا تريد للموظفين أن يديروا شركات خاصة بهم أثناء الوقت الذي يعتبر من حق الشركة”، كما يقول بالارد.
ومع ذلك، فإن ازدياد اعتماد الاقتصاد على الموظفين بعقود مؤقتة أو قصيرة الأمد أدى إلى زيادة كبيرة في أعداد الموظفين المهرة الذين يعملون بدوام جزئي أو عن بعد.

تهيئة المديرين للتغيير
إذا أخذنا الإحصاءات الحديثة في الاعتبار، فإن زيادة أعداد من يعملون من المنزل باتت أمرا حتميا. ويترتب على ذلك أن يتكيف المديرون مع مثل هذه الثقافة الجديدة.
ويقول بالارد: “جزء من المشكلة يتمثل في أننا سنستمر في إدارة الناس بنفس الطريقة التي اتبعناها إبان الثورة الصناعية، عندما كان الموظفون يعملون في خط إنتاج، ويكفي أن يراهم المدير ليعرف أنهم منتجون”. ويضيف: “نحتاج لتدريب المديرين والمسؤولين ليتعلموا كيف يديرون بشكل أفضل قوة عاملة تعمل عن بعد”.
وبوجه عام، ربما ينتهي بنا الأمر بأن يكون لدينا الحرية في أن نعمل حيثما نريد، لكن الإمكانات التكنولوجية التي تمنحنا حرية التنقل ستفرض علينا قيوداً أكبر في عملنا، إذ سيكون من السهل الوصول إلينا في الحال، بغض النظر عن وقت ومكان العمل.