Beirut weather 17.41 ° C
تاريخ النشر September 6, 2022
A A A
كيف أصبح الأثرياء أكثر ثراء في الأزمة المالية اللبنانية؟
الكاتب: سمر القـزّي - النهار

خلقت الأزمة المصرفية إحدى أكبر عمليات نقل للثروات التي حدثت في تاريخ لبنان.
في عام ٢٠١٩، حينما اندلعت الأزمة وأوصدت المصارف أبوابها أمام مودعيها، بلغ الدين في قطاع المصارف التجارية ٣٨ مليار دولار أميركي. من أصل الـ٣٨ مليار دولار هذه، بلغت قيمة الديون المقدمة لقطاع الشركات التجارية ٣٢ مليار دولار أميركي.

تجني المصارف الأموال عموماً عن طريق اقتراض الأموال من المودعين وتعويضهم بسعر فائدة معيّن، ثم تُقرض الأموال للمقترضين، فارضة سعر فائدة أعلى على المقترضين ومستفيدة من فروق أسعار الفائدة. هكذا تلخص كيفية ربح المصرف للمال.

المودعون في القطاع المصرفي اللبناني أو بالأحرى “المدخرون” هم أشخاص عملوا في قطاع الخدمات وكان لديهم فائض قليل من الدخل يمكن ادخاره. إنهم الأطباء والمحامون والمهنيون والمهنيات وأمثالهم وأمثالهنّ. إنهم من ادخروا ما يعيلهم عند تقاعدهم أو من أجل تعليم أطفالهم أو لشراء شقة ما تأويهم أو من أجل قضاء عطلة عائلية ذات صيف. كان المدخرون الطبيعيون من الطبقة الوسطى وخاصة الطبقة الوسطى العليا.

الأثرياء أيضاً لديهم مدخرات نقدية بالتأكيد، بيد أنهم كذلك من كبار المقترضين من المنظومة حيث باتت غالبية أموالهم في الخارج. تميل المصارف أكثر إلى إقراض الأثرياء عموماً بسبب قلة مخاطر التخلف عن سداد القروض ولأن لدى الأثرياء أصولا أكثر لتقديمها كضمان مقابل القروض. أضف إلى ذلك، إذا كنت فرداً من أصحاب الثروات العالية جداً، ففي غالب الأمر أن أموالك تبيت آمنة في مصارف في سويسرا أو المملكة المتحدة أو غيرها، وليست في لبنان.
في أيلول ٢٠١٩، بلغت القروض المستحقة بالعملة الأجنبية في المصارف اللبنانية ٣٨ مليار دولار أميركي (الرقم حسب موقع المصرف المركزي). في حزيران/يونيو ٢٠٢٢، انخفض هذا الرقم إلى ١٢،٨ مليار دولار أميركي، أي أن الدين الذي سُـدد للمصارف التجارية بلغ ٢٥،٢ مليار دولار أميركي. إن هذا الرقم ضخم لو أن هذه الأموال قد سُـددت بدولارات فعلية أو في أفضل الأحوال بسعر الدولار الحالي في السوق. إلا أن الأمر لم يكن كذلك بتاتاً مع الأسف.

إبان بلوغ قيمة الدولار الواحد ٢٠ ألف ليرة لبنانية، كانت تلك الأموال تُــسدَد إما بقيمة ١٥٠٠ ليرة لبنانية فقط للدولار الواحد، أو ٣٨٠٠ ليرة لبنانية، أو بشيكات بنسبة ٣٠ بالمائة فقط من إجمالي حجم القرض. بشكل عام، بات ما كان يُــسدَد وبأي قيمة عصياً على الفهم، فــيُلاحظ في بيانات المصرف المركزي أن الـ٢٥،٢ مليار دولار أميركي قد سُددت بقيمة ٧،٥٦ مليار دولار أمريكي بالدولار الفعلي.

الفجوة بين ٢٥،٢ مليار و٧،٥٦ مليار دولار تساوي ١٧،٦٤ مليار دولار أميركي.

كان هذا الفرق يوماً أموال المودعين التي تبخرت في هذه العملية، وهو ما أسمّيه نقلة الثروات من الطبقة الوسطى إلى الأثرياء. وبما أن قوانين الفيزياء تفرض أن المال لا يتبخر كالماء، فإن الأموال قد انتقلت من جيب إلى جيب آخر. ببساطة، هكذا أصبح الأثرياء أكثر ثراء.
إذاً من هم الذين خسروا ١٧،٦٤ مليار دولار أميركي ؟ في المقام الأول، هي الطبقة الوسطى العليا من ذوي الدخل المتاح وأعضاء النقابات المهنيين كنقابة المهندسين الذين كانت ودائعهم بالدولار، ونقابة الأطباء والخدمات الطبية الأخرى، وكذلك حال معظم النقابات التي كانت مدخرات أعضائها بالدولار. لم تفقد الطبقة الوسطى ودائعها ومدخرات الحياة لديها فحسب، بل لا بد أنها فقدت أيضاً معاشاتها التقاعدية في إحدى نقابات العمل كذلك.
ومن هم الذين ربحوا تلك الـ١٧،٦٤ مليار دولار أميركي؟

تشير التقديرات إلى أن ٣٠ من أكبر الشركات القابضة اللبنانية قد ربحت تلك الأموال، حيث قُدمت غالبية قروض الشركات إلى أكبر ٣٠ شركة، بالإضافة إلى الأشخاص البارزين سياسياً (PEPs) الذين اقترضوا من المصارف تحت أسماء هيئاتهم التجارية بدون حتى أدنى الضمانات للمصارف. في القطاع المصرفي بشكل عام، كانت نسبة ٨٠ بالمائة من قروض الشركات تُمنح لأكبر ٢٠ أو ٣٠ شركة أو تكتل تجاري.

وبالتالي، فإن ما نراه اليوم هو نهوض شركات لبنانية كانت مثقلة بالديون في عاميّ ٢٠١٨ و٢٠١٩ وفي ضائقة شديدة، نهوضها من الحضيض إلى مواقع ذات ربح صاف، فهي تواصل تجارتها في الخارج بالدولار الأميركي بينما يهبط صافي ديونها إلى الصفر. يجدر بالذكر أن قطاع المصارف التجارية حالياً ليس لديه قروض للشركات.

إن الأشخاص البارزين سياسياً (PEPs) اليوم لديهم أيضاً أعمالهم في الخارج، يجنون الإيرادات بالدولار وقد أتموا سدّ قروضهم اللبنانية ذات العملة الأجنبية بجزء بسيط جداً من الأموال التي اقترضوها. إذا قمت بالحساب فإنك ستجد متوسط القروض قد سُدد فقط بنسبة ٣٠ بالمائة بالدولار.

إذاً لمَ لا نر أحداً يثور؟
يقال إن الجياع لا يثورون؛ فقط أولئك الذين لديهم الكثير ليخسروه هم من يشعلون الثورات. أمسى أثرياء لبنان أكثر ثراء، فماذا لديهم أن يخسروا وعلام سيثورون؟ المكاسب المفاجئة التي قدمتها لهم الأمة على طبق من ذهب وعلى حساب الطبقة العاملة ليست سوى أكبر عملية سطو لهذا القرن.

*خبيرة الأسواق المالية العالمية