Beirut weather 20.41 ° C
تاريخ النشر December 3, 2022
A A A
كل شيء ينتظر الربيع
الكاتب: ناصر قنديل - البناء

بالرغم من التعقيدات التي تواجه الطرفين الأميركي والروسي كلاعبين رئيسيين في الحرب الأوكرانية، لا يبدو أن حسابات أي منهما أو كليهما قد بلغت المرحلة التي تتيح قراءة موحدة لموازين القوى التي تبنى عليها التوازنات، ومن خلفها التفاهمات؛ ما يعني أن للحرب وظيفة مستمرة لا يزال عليها أن تؤديها، طالما أن جوهر نشوء الحروب وفقاً لصاحب نظرية الحرب لودفيغ كلاوزفيتز يقوم على القراءة المتباينة لموازين القوى، وجوهر الردع يقوم على جلب الخصم الى قراءة معاكسة لما كان يظنه حول موازين القوى، وطالما أن الأميركي لا يزال يعتقد أن تعقيدات الحرب وتداعياتها على معسكره لا تزال تحت سقف الاحتواء، طالما أن المركز الأميركي لا يزال بمنأى عنها، بل يحقق المكاسب منها ولو على حساب شريكه الأوروبي، وطالما أن الأنين الأوروبي تحت وطأتها لا يزال أمام اختبار فصل الشتاء. وبالمقابل تعتقد روسيا أنها نجحت بتحويل حزمة العقوبات القاتلة التي صمّمت لإسقاط اقتصادها من تحدّ إلى فرصة، وأن احتواءها للعقوبات يشكل بوليصة تأمين صالحة للنجاة من مثيلاتها، فإن أياً من الفريقين لا يشعر بالحاجة للتراجع عن قراءته لموازين القوى حتى يقول الشتاء كلمة الفصل في مصير الأنين الأوروبي الذي تراهن روسيا على بلوغه المسامع الأميركية بقوة، وتحريك المياه الأوروبية الراكدة بقوة أشد. وطالما أن واشنطن تأمل بأن ينجح تحديد سقف لسعر النفط الروسي بجعل روسيا تتألم بما لم تنجح حزمة العقوبات بتحقيقه.

خلال الوقت الفاصل حتى الربيع سيختبر الأميركيون والروس كل ما بين أيديهم لرفع منسوب الشعور بالألم على الضفة المقابلة، وبينما تدفع روسيا بخطتها العسكرية في أوكرانيا لجعل خطة نزوح سكاني أوكراني نحو أوروبا بالملايين تحت وطأة انقطاع الغاز والكهرباء في موسم البرد القارس، تسعى واشنطن لجعل تسقيف سعر بيع النفط الروسي سبباً لفرض الشلل الاقتصادي الذي فشلت العقوبات بفرضه. واستعداداً للربيع تتم عملية تزييت قنوات الاتصال، وتطلق بالونات الاختبار التفاوضية لاستكشاف الحدود التي يمكن أن يجري حولها، سواء لجهة مصير الجغرافيا الأوكرانية والتوغل الروسي فيها، أو لجهة منظومة الأمن الأوروبية التي ستولد من رحم الحرب، وحتى ذلك الموعد سيبقى كل اتصال وكل حديث عن التفاوض مجرد جس نبض ليس إلا.

على جبهة العلاقات الأميركية الصينية، ربط نزاع وقواعد اشتباك تتيح جسّ نبض حدود التفاوض وخطط التصعيد في ملفات التجارة التقنية العالية، وملف تايوان وملف كوريا الشمالية وقوتها الصاروخية، وخلال الشهور الفاصلة عن الربيع تقف الصين وأميركا تحت سقف حرب باردة، لا تلغي برودتها لكونها حرباً، سوف يختبر خلالها الصينيون توازنات تايوان الداخلية الآخذة في التأرجح لصالح حلفاء في المعارضة يسعون لمقايضة خطر الحرب بالتفاوض على شكل مرن من الوحدة بين الصين وتايوان، كما تختبر الصين حدود الاستفزاز الكوري لأميركا وحلفائها، بينما يختبر الأميركيون حدود قدرتهم على الابتعاد عن الاعتماد على الصين اقتصادياً في العديد من مجالات الصناعة والاستهلاك، ويختبرون حدود قدرة حلفائهم على تحمل تداعيات التصعيد الكوري في مياههم وأجوائهم، وفي الربيع سيكون للتفاوض أرضية أشدّ وضوحاً لقراءة الموازين على الضفتين.

بين أميركا وإيران، رهان إيراني وأميركي على الشهور التي تفصلنا عن الربيع، حيث ترغب واشنطن برؤية صحة توقعاتها او تمنياتها بأن تتحول الأزمة الراهنة في إيران إلى ازمة نظام مفتوحة تجبر القيادة الإيرانية على تخفيض سقفها التفاوضي، وحسابات إيرانية للقدرة على تجاوز الأزمة من جهة، وعلى صعوبة تحمل واشنطن ما تحققه إيران من تقدم نحو العتبة الحرجة نووياً مع تزايد الكميات المخزنة من اليورانيوم المخصب على نسبة مرتفعة من جهة موازية، وقبل أن يختبر كل فريق حساباته ورهاناته، وقدرة الخصم على التعامل مع النتائج لن تكون قراءة في كتاب واحد لمسار الأحداث تتيح ترصيد النتائج وبناء الأرضية التفاوضية عليها.

بين إيران والسعودية شيء مماثل يرتبط بالوضع داخل إيران والانخراط السعودي في الاستثمار عليه، كما توضح المؤسسات الإعلامية السعودية، وليس الاتهامات الايرانية فقط، وحساب إيراني للقدرة على التحمل والاحتواء من جهة، والتعامل بالمثل من جهة أخرى خصوصاً برفع سقف التأييد لموقف أنصار الله في اليمن وحزب الله في لبنان، واختبار القدرة السعودية على تحمل نتائج ادارة الظهر لقوى المقاومة في البلدين، بينما تسير السعودية في اتجاه يضعها مع إيران على مسافة أقرب من الماضي بكثير مع علاقات أكثر بعداً عن التمركز في المعسكر الأميركي، وتموضع أكثر قرباً من كل من روسيا والصين، تكثر عليه الشواهد الواضحة، بينما تعيش فلسطين اختباراً أشد دموية مع حكومة بنيامين نتنياهو التي تمثل العودة إلى زمن عصابات الهاغاناه والأرغون، وستكون الأشهر الفاصلة عن الربيع كافية لبلورة مشهد فلسطيني جديد، ومشهد إسرائيلي جديد، يفرضان حضورهما على المنطقة كلها، ربما يكون سيف القدس الثاني أقل تداعياتها في منتصف أيار المقبل.

لذلك وأكثر، كل شيء ينتظر حتى الربيع، وكل ما يوحي بالجدية قبله ليس إلا استعداداً له.