Beirut weather 17.99 ° C
تاريخ النشر August 31, 2024
A A A
كان الإمام موسى الصّدر واضحاً: «إنّ شرف القدس يأبى..»
الكاتب: حسن الدر

كتب حسن الدر في “اللواء”

عندما قال الإمام موسى الصّدر: «إنّ شرف القدس يأبى أن يتحرّر إلّا على أيدي المؤمنين» كان كأنّه لا ينطق عن رؤية سياسيّة بقدر ما كان يجسّد حقيقة إيمانيّة، وكلّما مرّ عامٌ على تغييبه تراكمت علينا المحن واستشرست الذّئاب حولنا فنعود إليه لنراه حاضراً كأنّه كان يقرأ حاضرنا في ماضيه، وكأنّ الزّمان دان له مستشرفاً الآتي، مستبشراً بالمقاومة ومنذراً من التّخاذل أمام خطر الصّهاينة وحلمهم الكبير.
واليوم، تمرّ القضيّة الفلسطينيّة بأشدّ مراحل صراعها على البقاء، وأكثرها ضراوة وقسوة، على مختلف الصّعد والاتّجاهات.

حرب إبادة في غزّة، وقضم بطيء في الضّفّة، وانقسام داخلي، وتخلٍّ عربيّ وإسلامي، إلّا ما رحم ربّي، وتآمر عالميّ في زمن اللّاتوازن الدّولي، ومساحة الفراغ القيادي في إدارة العالم بعد صعود الصّين وروسيا وإيران على حساب تراجع الولايات المتّحدة الأميركيّة وبروز الصّراع على «تايوان» واندلاع الحرب في «أوكرانيا» ثمّ عمليّة «طوفان الأقصى»، وكلّها مراكز حيويّة لا يمكن لأميركا التّفريط بواحدة منها، فكيف بها وهي تشعر بمخاطر تهدّدها في جميعها..
وإذا كانت «إسرائيل» قد قامت عقب انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية ونشوء النّظام العالميّ الجديد فإنّ أحد أهمّ أسباب بقائها مرتبط باستمرار ذلك النّظام الّذي يشهد منذ أكثر من عقد من الزّمن تحدّيات كبرى، اقتصاديّة وسياسيّة وعسكريّة، تستفيد منها القوى الصّاعدة لتعلن صراحة عن بداية مخاض ولادة عالم متعدّد الأقطاب بديلاً من الأحاديّة القطبيّة الّتي تمثّلها الولايات المتّحدة الأميركيّة.

بالعودة إلى فلسطين وقضيّتها، الّتي كانت يوماً قضيّة العرب الأولى، فالتّحدّي الكبير اليوم يظهر في تخلّي معظم الحكومات العربيّة عنها وسعيهم للاندماج بالمشروع الإبراهيمي تحت ضغط التّهديد والوعيد الّذي تمارسه أميركا لتكريس «إسرائيل» نموذجاً غربيًّا متقدّماً يمثّل مصالحها في المنطقة.
وبعد اللكمة التي تلقّتها في السّابع من أكتوبر الماضي، وعجزها عن تحقيق النّصر الخاطف والحاسم وانكشاف وهنها الاستخباري وبعد أزمة داخليّة غير مسبوقة وصلت حدّ التّهديد بحرب أهليّة قبل السّابع من تشرين الأوّل الماضي، يسعى زعيم التّطرّف الصّهيوني «بنيامين نتنياهو» إلى إعادة بناء «إسرائيل» جديدة وفق عقيدة قتاليّة/إجراميّة جديدة بهدف استعادة قوّة الرّدع لتبقى يدها هي الطّولى في المنطقة على حساب مبادئ النّظام العالمي ومؤسّساته الّتي شلّت أميركا قدرتها على كبح جماح الجنون الصّهيوني من مجلس الأمن إلى محكمة العدل الدّوليّة وما بينهما من منظّمات دوليّة وإقليميّة.
«إسرائيل» الجديدة بقيادة نتنياهو وفريقه التّلمودي تخطّط لضمّ الضّفّة والقضاء على غزّة ثم ضمّها، وكان «ترامب» وقحاً كعادته عندما رأى «إسرائيل» صغيرة على الخريطة وفكّر كيف سيوسّع حدودها في خطاب ألقاه قبل اسبوعين في أحد لقاءاته الانتخابيّة.
«إسرائيل» الجديدة تسعى للتخلّص من مكامن التّهديد الوجودي المتمثّل، حسب نتنياهو، بالبرنامج النّووي الإيراني وقوّة المقاومة في لبنان، وتسعى للاندماج في المنطقة عبر اتّفاقات التّطبيع والسّلام، وكانت قد قطعت شوطاً في ذلك لولا تجميدها بعد عمليّة «طوفان الأقصى».
فهل تنجح «إسرائيل» بإعادة إنتاج نفسها؟!
إجابة هذا السّؤال مرهونة بنتائج الحرب القائمة، وبمصير الصّراع الدّولي على قيادة العالم، وفي الأثناء تستفيد الدّولة العنصريّة من انقسام الأمّة وانكفائها والتهائها بصراعات صمّمها الغرب وينفّذها أبناؤها بأنفسهم.
فكيف ستنتصر أمّةٌ لم تحرّك غيرتها دماء الأطفال واستغاثات النّساء في غزّة؟
كيف تنتصر أمّة ترى «إسرائيل» عدوًّا ومن يقاتل «إسرائيل» عدوًّا أيضاً؟!
كيف تنتصر أمّة يبرّر إعلامها ومثقّفوها ومؤثّروها لإسرائيل جرائمها من منطلقات حقد طائفيّة؟
كيف تنتصر أمّة تستحضر 1400 عاماً من الصّراع الدّاخليّ في ذروة الهجوم الخارجي عليها؟
وكيف تنتصر أمّة يدنّس أقصاها وكنيسة قيامتها ولا تتحرّك غيرتها الإيمانيّة بينما تقوم قيامتها ولا تقعد انتقاداً لتغريدة حُرّفت معانيها عمداً مع وضوح غاياتها؟!
نحن والحال هذه نقف على أعتاب الذّكرى السّادسة والأربعين لتغييب إمام من أئمّة المسلمين وراهباً من رهبان النّصارى وعلماً من أعلام الإنسانيّة، الّذي غيّب انتقاماً لذوبانه في فلسطين وتكريس حياته لمواجهة الخطر الصّهيوني على البلاد والعباد.
اليوم، كما كلّ يوم، نستذكر بعضاً من نفحات الإمام موسى الصّدر التّنويريّة، وكما كلّما قرأنا سطراً من خطبة أو جملة من محاضرة يتلفّت الشّوق في قلوبنا حول حزننا لغيابه فنظنّه بيننا يسمع ويرى!
في 30 حزيران 1978، أي قبل شهرين من اختطافه وتغييبه، يقول في ذكرى «الإسراء والمعراج»:
«وإننا لا ننظر إلى هذه القضية المقدّسة بمنظار سياسي، ماذا نعطي وماذا نأخذ؟ ماذا يؤثر في حياتنا وماذا لا يؤثر؟
إنّه ديننا، إيماننا، أساس تفكيرنا وانبعاثنا من جديد. نؤمن بذلك، ونعاهد الله على ذلك، ونسلك هذا الطريق. ولذلك، ترون أن دعوتنا للعودة إلى فلسطين ليست دعوة سياسية كدعوة النّاس الآخرين، الّذين هم خبراء في شؤون السّياسة، أفراداً أو جماعات، شخصيّات أو أحزاباً.
كلا، إنّ العودة إلى فلسطين صلاتنا، وإيماننا، ودعاؤنا؛ نتحمّل في سبيلها ما نتحمّل، ونتقرّب إلى الله في سبيلها بما نتحمّله من مصاعب، حتّى ولو كانت المصاعب من أهلها».
ثمّ نسأل الّذين يدّعون تأييدهم لفكر الإمام موسى الصّدر، من المخالفين للمقاومة: هل تتبنّون رأيه وفهمه وسعيه لتحرير فلسطين وتحمّل المصاعب، مهما كثرت والتّضحيات مهما غلت، وهو الّذي دفع حرّيّته ثمناً لدفاعه عن فلسطين ومحاربة الصّهيونيّة؟!
لقد حسم الإمام القائد السّيّد موسى الصّدر النّقاش قبل بدئه وأعلن فلسطين قضيّة إيمان ودين وليست قضيّة سياسيّة خاضعة لحسابات المصالح، وفي سبيل القضايا العقائديّة تهون التّضحيات مهما كبُرت!
واليوم عصراً، بتوقيت الإمام الصّدر، سيطلق الرّئيس نبيه برّي صرخة في برّيّة العرب والمسلمين، أن أفيقوا من سباتكم وأنقذوا ما تبقّى من فلسطين، فمَن يجمعنا إذا ضاعت أولى القبلتين ومن ينقذنا من الذّئب إذا انتصر اللّصوص واشتروا المسجد والكنيسة بثلاثين من الفضّة قبل صياح الدّيك!