Beirut weather 21.41 ° C
تاريخ النشر August 22, 2016
A A A
قُلْ لا
الكاتب: نصري الصايغ - السفير

قل نعم، أو قل لا، لا فرق. يتشابهان إلى حد العبث. لم تعد اللغة صالحة للخدمة. لبنان أفرغ اللغة من ضمائرها. باتت بلا أخلاق. هذر بلا مردود. ألفاظ بلا مدلول. كل شيء بات معروفاً. لبنان كله بضاعة فاسدة ويتمّ التعامل معها كعملة نادرة، وسلعة مشتهاة.
حين تكون الحياة السياسية بهذه التفاهة والضحالة والسفالة، تتساءل: ما نفع الكتابة؟ تقول: ما معنى أن تقول للفاسد أنت فاسد؟ لا مسوِّغ أبداً لرفع الصوت بالاتهام. الفاسدون يعامَلون كالقديسين. يُوضَعون في مرتبة متقدّمة. المقاعد الأمامية المزدهرة محجوزة لقراصنة الإدارة وصيّادي الصفقات ومروّجي المشاريع ومصمّمي التنمية وملفلفي الملفات وقضاة «الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف».
حين تكون أنت الشاهد الحي على كل ما يجري من فضائح وسرقات وصفقات وتشبيحات، لا تظنّ أنك وحيد. اللبنانيون شهود أحياء لكل زلاَّت المال، ومع ذلك تتساءل: ما نفع ما تراه، طالما أن اللبناني مصمِّم على حماية المرتَكِبين؟ تقول: لماذا يتكاثر «أصدقاء الفساد» ويتضاءل عدد الأعداء الحقيقيين للفاسدين. طوبى للفاسدين. هذا بلد تقديس الفساد بجدارة احتلاله السلطة والمؤسسات والمجالس و «التيارات» والأحزاب والمرجعيات والجامعات والمشافي والإعلام والأرقام وبيوت المال والقضاء ودواوين المحاسبة والرقابة… لذا، لا صوت يعلو على الفساد الناطق، من دون أن يتكلَّم. يلزم ترشيح لبنان، وربما معه العراق، لموسوعة «غينيس» لكونه يحتل المرتبة الممتازة في التعامل الخاسر مع الفساد المرشح لمزيد من النفوذ والأمر.
لا أحد يتحدّث عن ضحايا الفساد. لا لزوم لهذا الطقس. يلزم إشغال الناس بسوريا. يلزم تكرار معزوفة الفراغ الرئاسي. يلزم أن يتبارى الفرقاء في توجيه الاتهام بالتعطيل المتبادل للحياة البرلمانية. يلزم إقناع الناس باليأس العام من قدرة مجلس النواب بإنتاج قانون انتخابي. يلزم احترام «الشراكة» الوطنية (أي المحاصصة المتوازنة في ارتكاباتها) إلى آخر ما يتناوله الرؤساء والوزراء والنواب وأصحاب القول والمرجعيات المعنية بمباركة الكذب والكذّابين.
لبنان مكتظّ بكلام فائض عن تركيا وروسيا و «داعش» واليمن والعراق و «النصرة» وهلم جراً من معارك الكر والفر المذهبي المتعسكر والمسلّح، ولكنه يخلو من الكلام على الارتكاب. يندر أن يجد اللبناني تصريحاً أو قولاً يتناول نقداً أو موقفاً من الفساد… هؤلاء شهود مقرّبون من مراكز الفساد المنظم والمعمَّم ومع ذلك، يصرحون كل يوم تصريحات سخيفة عن كل شيء لا يعنيهم.
ليس من اختصاص الضعفاء أن يسمّوا الأشياء بأسمائها التي يعرفونها. هذه أسماء مصونة ومحصّنة ومحتَضَنة ومدعومة بمواد قانونية صارمة. أي كلام ضد فاسد، يثير شهية القضاء لرفع صوت التشهير. إننا ضعفاء ولكننا لسنا أغبياء. لن نسمِّي السارقين، ولكننا نسأل أصدقاء الفساد الثرثارين جداً في السياسة المنحطة، لماذا تخرسون أمام ملف النفايات؟ لا تسمّون الأشياء بأسمائها. تكتفون بشتم الفساد. «ما أفصح القحباء!» على قول الكاتب سعيد تقي الدين… لماذا تسكتون أمام ملف الكهرباء الفصيح والواضح والمعروف مَن ارتكب فيه الملايين؟ لماذا تصمتون أمام عار الليطاني. إنه نهرٌ تمّ تلويثه من زمان، بتعامٍ تام عن المرتكبين من المعامل والمصانع والمشافي ومجارير البلديات؟ لماذا لا تسمّونهم وترفعون ملفاتهم إلى القضاء، (لو كان القضاء حراً). لماذا تصرون على التهرّب من ملف الجامعة اللبنانية المحتلَّة، من قبل «مجلس أمناء الطوائف» الحاكمة والمتحكمة والمستحكمة؟ الجامعة تنهار يا أيها اللبنانيون، وهدَّاموها منها وفيها ومن خارجها، من أعتى الزعامات إلى أدنى الأتباع؟
إن «ممثلي الشعب» يخرسون إزاء ملفات الفساد، ويجودون بتصريحات «استراتيجية».
قل نعم، أو قل لا، لا فرق.
لا شيء يُرجى من عموم أطراف الطبقة السياسية، بمن فيهم «الأوادم» الجبناء، بمن فيهم النظيفون الوضيعون ومغمضو العيون والضمائر… لا شيء يُرجَى أبداً من أحد. كل شيء يدعونا لنبحث عن أمل مات قبل أن نصل إليه. كل شيء يدعو إلى اعتبار اليأس مكسباً وطنياً هاماً. اليأس من هذه الطبقة ومَن معها ومَن ضدها فيها، أمر واجب وحتميّ لتعود إلى اللغة سلامة المعنى، ولتكون نعم ضد لا، لا مساوياً لها.
لماذا كل هذا الحصار؟ لماذا التغيير مستحيل؟ لا يُرجى أمر إيجابي من فوق، فلو أن الدولة عادت وترسملت برئاسة منتخبة ومجلس نيابي جديد وحكومة جديدة، فإن شيئاً لن يحدث ولن يتغير شيء. الفساد عابر للأنظمة والرئاسات والمجالس والحكومات. هو أولاً وآخراً وبين بين.
حدث من زمان الحرب ومن بعدها في عهد الوصاية السورية أن تمّ تخريب الأحزاب وتشليع المؤسسات وتفريغ النقابات وإلحاق القضاء بالمحاسيب السياسيين، وأطلقت يد الفساد المدعوم والمبرأ من الارتكاب مهما كانت فظائعه مدمّرة. لبنان اليوم لا يُطاق بسبب ما تجرّأ الفساد فيه على كل شيء. كل شيء. بلا استثناء.
إن اجتراح معجزة التغيير تحتاج إلى هذا اليأس من الجميع، والبدء بحفر الصخرة بإبرة الإصرار على العدالة والمساواة والمساءلة والمحاسبة والملاحقة والمعاقبة. مثل هذا النضال يتطلب التجرؤ على الاستشهاد.
نعم. على الاستشهاد، وليس أقل من ذلك.