Beirut weather 18.41 ° C
تاريخ النشر August 21, 2024
A A A
قوة المقاومة في منع الحرب والاستعداد لخوضها
الكاتب: علي حيدر - الأخبار

أظهرت مواقف قادة حزب الله وأداؤه العملياتي، منذ اللحظات الأولى التي تلت عملية «طوفان الأقصى»، إدراكه للمخاطر التي تنطوي على خيار إسناد غزة ودعم أهلها، وأيضاً مخاطر الامتناع عن ذلك فلسطينياً ولبنانياً وإقليمياً. فلم يحبطه تخاذل نخب وقوى سياسية في دول محيطة بفلسطين، وأبعد منها، كان يمكن لتحرّكها الجدي أن يُغيّر جذرياً مجرى التطورات والمعادلة التي تحكم الميدان. كما لم يتوقف عند حماسة المنفعلين، ولا مزايدات المزايدين، ولا خوف الخائفين، بل قارب المتغيّرات استناداً إلى خبرة أربعة عقود من المواجهة مع العدو، وفهم دقيق للواقع الإسرائيلي ومتغيّراته.منذ اللحظات الأولى، حدَّد حزب الله مهمة جبهة لبنان بأنها إسناد للمقاومة في غزة ودعم لأهلها، مع ما لهذا التحديد من قيود وموجبات، آخذاً في الحسبان مصالح لبنان. ومن الواضح، في ضوء آلية صناعة القرار في حزب الله، أن هذا الخيار تبلور نتيجة تقدير استراتيجي للخيارات الممكنة والمجدية، واستناداً إلى قراءة دقيقة لعناصر القوة والضعف في مواجهة التهديدات والفرص، مع الأخذ في الاعتبار التحولات التي استجدّت في العقل الاستراتيجي الإسرائيلي بعد الطوفان الذي هشّم أغلب مرتكزات الأمن القومي.
في هذا الاتجاه، هدفت المقاومة في جبهة لبنان إلى مراكمة الضغوط على كيان العدو، بما يُعقّد خطته إزاء غزة، ويحول دون الاستفراد بها في معركة طويلة يراهن فيها على أن ما لم يتحقق في الأشهر العشرة الماضية يمكن أن يتحقق بمواصلة هذا المسار لأمد زمني مفتوح. لكن ربط جبهة لبنان بغزة، مكَّن المقاومة من أن تفرض على مجمل الكيان، جمهوراً ونخباً ومؤسسات بأن مواصلة هذا المسار تعني استمرار جبهة لبنان في الضغط العسكري إلى أمد مفتوح أيضاً. ولضمان ذلك، عمدت المقاومة إلى استخدام مدروس للقدرات، وفرض قواعد تمنع استباحة المدنيين والمنشآت الاستراتيجية للدولة اللبنانية، وتوفير أوسع نطاق ممكن من مواصلة الحياة في الجنوب وبقية الأراضي اللبنانية.
نتج عن هذا الخيار العملياتي تهجير عشرات آلاف المستوطنين (من دون حساب عشرات الآلاف غير المشمولين في الإحصائيات الرسمية لأنهم تركوا مستوطنات لم يشملها القصف)، وربط عودتهم بوقف الجبهة، وبثّ حال من الخوف واللااستقرار في مستوطنات خط المواجهة، أخذت تتسع مع فرض حزب الله معادلة جديدة بضم مزيد من المستوطنات إلى قائمة الأهداف رداً على إصابة مدنيين، وتحويل شمال فلسطين المحتلة إلى ساحة مواجهة، وإشغال جيش العدو واستنزافه. ونتج عن ذلك جذب ثلاث فرق من جيش العدو في وقت كان يحتاج فيه إلى مزيد من القوات في غزة.
في ضوء المراحل والمتغيّرات التي توالت خلال الأشهر الماضية، أصبحت محدّدات حزب الله في خياره العملياتي، دفاعاً ورداً وابتداء، أكثر وضوحاً، ومن ضمنها:

تحت سقف الحرب
لا يخفي حزب الله حقيقة أن أولويّته العمل تحت سقف الحرب ما دام ذلك ممكناً. وليس هذا الخيار مستجداً في عقيدته. ففي كل تاريخه لم يسبق أن تبنّى أو دفع باتجاه الحرب. ومن أسباب ذلك أن خيار الحرب، ابتداء، يتعارض مع ماهية المقاومة، وأن موازين القوى لا تُحسب فقط في مواجهة العدو الإسرائيلي، وإنما أيضاً في مواجهة حلف شمال الأطلسي (وعلى رأسه الولايات المتحدة) الذي سيهبّ لنجدة إسرائيل كما اتضح في ثلاث محطات رئيسية حتى الآن في الأشهر العشرة الأخيرة. ولذلك، كان العدو يرد على عمليات حزب الله أحياناً بشن الحرب أو بعملية عسكرية واسعة، وكان حزب الله يخوضها من موقع الدفاع والرد، ويخرج منها منتصراً.
في ما يتعلق بالظروف الحالية، فإن اللجوء إلى الحرب ليس من مصلحة المقاومة ابتداء، ولا يحقق الأهداف المنشودة، سواء في ما يتعلق بغزة أو لبنان أو الساحة الإقليمية، وإنما سيؤدي إلى توسيع نطاق الحرب على مستوى المنطقة، لا إيقافها. والسبب أنه لا الأميركي ولا الإسرائيلي سيكونان مستعدّيْن للتراجع في ضوء ما أدّى إليه «طوفان الأقصى» من نتائج وتداعيات على الأمن القومي الإسرائيلي. أما في حال فُرضت الحرب، فيصبح خوضها من موقع اللاخيار، ويصبح هامشها أوسع وأكثر فعالية، إضافة إلى أن مشروعية المقاومة ستكون أوسع وأعمق.

الهامش العملياتي
تحضر في هذا السياق إشكالية استغلال العدو لحرص المقاومة على العمل تحت سقف الحرب، ليوسّع اعتداءاته انطلاقاً من اطمئنانه بأنها لن تردّ بما يؤدي إلى الحرب. لكن هذا المفهوم ليس مطلقاً. بمعنى أن ردود المقاومة تتصاعد أيضاً بحسب الاعتداءات، خصوصاً أنها تدرك أن ليس من مصلحة العدو هو الآخر الذهاب نحو حرب واسعة وشاملة. وبالتالي، لا يعني حرص حزب الله على العمل تحت سقف الحرب، أن يقف مكتوف الأيدي أياً كانت الاعتداءات، ولا يعني حرص العدو على تجنب الحرب، أن ذلك خياره مهما كانت عمليات المقاومة التي يتعرض لها رداً وابتداء. فقد أثبت أداء حزب الله أنه عندما كان يتجاوز العدو بعض الخطوط الحمر، كان الرد يأتي مختلفاً عن النسق العملياتي الحاكم للميدان، ويتحرك بين محدّدين: بين جبي أثمان أكثر تناسباً (بالمعنى الواسع للكلمة) من العدو، وعدم الدفع نحو الحرب. وبذلك كان قرار الحرب ينتقل الى أحضان صنّاع القرار في تل أبيب وواشنطن، ويحافظ على موقع المقاومة في الدفاع والرد. وهو أمر شديد الأهمية في نتائجه وتداعياته والتفاف بيئة المقاومة حولها وثباتها وصمودها. وينطبق هذا المفهوم على ردود حزب الله على بعض الاغتيالات والاعتداءات التي ارتقى سقفها عن ضربات سابقة، وبقيت أيضاً تحت سقف الحرب.

تجدر الإشارة إلى أن حرص المقاومة على تفادي الدفع نحو الحرب لا يعني أنه بعد الرد تعود المعادلات والوقائع إلى ما كانت عليه قبل الاعتداء، بل تكون لها نتائج وتداعيات فعلية وإيجابية. ويعود ذلك إلى أن معادلة الرد و/ أو الردع التي تنتج عن ذلك، تساهم في تقويض خيارات ورهانات لدى العدو، وتوفّر مظلة للمقاومة لمواصلة برامجها وخياراتها الاستراتيجية. فانتصار المقاومة في مواجهة حرب نيسان 1996، أنتج مظلة للمقاومة مكَّنتها من توسيع نطاق ضغوطها، وتقليص رهانات العدو على خيارات عدوانية، ما مهَّد الطريق إلى التحرير. كما أدى انتصار المقاومة في حرب 2006 الدفاعية إلى تغييرات مفاهيمية في كيان العدو، من ضمنها سقوط الرهان على إمكانية الحسم وعلى ردع حزب الله، ووفّر مظلة للمقاومة ساهمت في تسارع تبلورها كقوة إقليمية.
في الخلاصة، بعد أكثر من عشرة أشهر من القتال، تتجلّى حقيقة نجاح حزب الله حتى الآن في ردع العدو عن شن حرب شاملة على لبنان، ونجاحه أيضاً في فرض قواعد ساهمت في تقييد عدوانه، رغم توسيع نطاقه في بعض الأحيان بشكل مضبوط، إلا أن حزب الله كان يرد بما يتناسب مع هذه الاعتداءات. والنتيجة الأهم في هذه المعادلة للمقاومة أنها منعت استباحة المدنيين، وهو ما نلحظه في جنوب لبنان الذي هو ساحة المعركة الرئيسية، كما في العمق اللبناني.