Beirut weather 17.41 ° C
تاريخ النشر December 10, 2017
A A A
قرار ترامب يُعيد الخلل المرجعي الإسلامي بين الاعتدال والتطرف
الكاتب: جهاد الزين - النهار

في العمق يُحدِث القرار الرئاسي الأميركي بالاعتراف بالقدس عاصمةً لإسرائيل خللاً في التوازن القِيَمي العالمي على ثلاثة مستويات:

خلل في تقاليد القانون الدولي، أي القيمة الشرعية، خلل في العلاقات بين الديانات التوحيدية، أي القيمة التقديسية، وخلل في العلاقات داخل الإسلام، أي القيمة المرجعية.

1- كان اللجوء إلى القانون الدولي ممثلاً بقرار تقسيم فلسطين عام 1947 الذي يجعل القدس منطقة تحت الوصاية الدولية هو أحد المرتكزات التي يستند إليها العالم، وفي المقدمة الغرب، للحفاظ على توازن ما معنوي هو آخر الثوابت غير المخترَقة لصالح إسرائيل. لهذا بقيت القنصليات العامة للدول الأوروبية والأميركية في مدينة القدس وخصوصا القدس الشرقية هي التعبير عن تمسك هذ الدول ولو الشكلي بالتوازن بين الفلسطينيين والإسرائيليين تحت راية القانون الدولي من حيث أن الوجود القنصلي هذا كان يعتبر نفسه مسؤولا أمام المدينة “الدولية” وحدها لا أمام دولة إسرائيل ولا طبعا أمام منظمة التحرير الفلسطينية حتى لو كانت القدس الشرقية محتلة بالكامل على يد الإسرائيليين. لا بل كانت إحدى القواعد غير المعلنة أن هذه القنصليات أقرب إلى بعثات للاتصال مع الفلسطينيين.

إذن الاختلال الأول الذي يحْدِثه قرارُ ترامب هو في تقاليد القانون الدولي.

2- الاختلال الثاني هو في التوازن العالمي بين الديانات الثلاث التوحيدية التي لا مدينة أخرى في العالم تستطيع أن تعبّر عن هذه العلاقة الثلاثية بكل أبعادها غير مدينة القدس. في كل من مكة الأقدس عند المسلمين وروما الأرفع وليس الأقدس عند المسيحيين واسطنبول (القسطنطينية) الحسّاسة في الذاكرتين المسيحية والمسلمة، عناصرُ مهمةٌ من هذا التوازن ولكن ليس كلها. وحدها القدس تستكمل هذه الثلاثية. القرار الأميركي بالمعنيين القانوني والديني هو قرار محرج للفاتيكان أيضا بل ضده. فالفاتيكان معروف بموقفه المستمر الداعي إلى حل الدولتين مع أن تكون القدس عاصمة لكل منهما ولكن بإيجاد وضعية دولية خاصة للأماكن المقدسة فيها بما ينسجم عمليا مع قرار 1947 الدولي في ما يتعلّق بالمدينة. ناهيك عن أن البابا فرنسيس عارض القرار علنا قبل صدوره.

3- إلا أن الخلل الثالث الخطر الذي يحدثه أو يجدِّد حدوثَه قرارُ الرئيس ترامب هو داخل البيئات المسلمة في العالم وخصوصا في الشرق الأوسط. إنه الخلل بين الإسلام المعتدل التعايشي والإسلام المتطرف ولصالح الثاني من حيث تجديد مبررات التطرف الديني وبدعه. فلم نكد نحتفل في الشرق الأوسط والعالم العربي بالانتهاء من “داعش الدولة” مراهنين على بدء حقبة جديدة من استعادة الإسلام قوته التعايشية بل مراهنين على أن انتهاء داعش سيعني بعد الذروة في الحرب السورية والعراق بدء نهاية كل الموجة الأصولية التي هيمنت في العقود الأربعة الأخيرة على كل المجتمعات المسلمة السنية والشيعية.

لم نكد نكمل فرحتنا بانطلاق مرحلة احتمال عودة الفكر التنويري حتى جاءنا القرار الترامبي المجاني لاسرائيل لأنه يحصل من دون سياق تسووي، والذي هو من هذه الزاوية الإسلامية قرار”داعشي” لأنه سيطلق أو يفتتح موجة غضب ويأس لا نعرف أية أشكال متطرفة ستنتج عنها.

هكذا يتجدد في صيغة جديدة كل تاريخنا مع إسرائيل منذ العام 1948: كل محطة انتكاسة أو هزيمة تدفع العالم العربي الغاضب من الظلم إلى موجة من التطرف ويصعِّب ليس الحياة العادلة على الفلسطينيين فقط بل يصعِّب الحياة الطبيعية والمزدهرة على أبناء المنطقة والشرق الأوسط.

… كأنما المعادلة – اللعنة الأولى التي تحكم وجود إسرائيل بيننا هي تدمير كل مشروع معتدل داخل مجتمعاتنا ودولنا. بما يعنيه الاعتدال من حداثة وليبرالية وتقدم وانفتاح. بل كل مشروع اعتدالي وتعايشي داخل المجتمع الإسرائيلي ومجتمعات الدياسبورا اليهودية. ربما تكون “الفائدة” الوحيدة لهذا القرار، إذا جاز تعبير “الفائدة”، أنه يعيد الاعتبار للقضية الفلسطينية “النائمة”. لكن على الأرجح هي عودة مؤقتة؟

في اليوم نفسه ( أمس الأول) الذي كنتُ أقرأ فيه غاضباً مثل ملايين العرب تعليقات الصحافة الإسرائيلية على القرار طالعني في “هآرتس” تقرير عن تفوُّق بعض الجامعات الإسرائيلية على المستوى العالمي ومنها جامعة “تكنيون” في حيفا التي جاءت في أحد التقييمات العلمية في المرتبة الأولى قبل جامعة MIT الأميركية.

نقلتُ التقرير على صفحتي على الفايسبوك. وبعد أقل من نصف ساعة جاءتني اعتراضات على أن هذا الاهتمام في غير وقته اليوم بسبب فداحة القرار الترامبي حول القدس.

هل هو في غير وقته؟ سحبتُ التقرير عن صفحتي ولو كان إلى جوار مقالات أخرى عن موضوع القدس. لكني لا زلت أسأل نفسي هل من علاقة بين خسارتنا السماء (القدس المقدسة) وخسارتنا الأرض (الجامعة المتفوقة)؟

الجواب الأول البديهي وربما الأسلم: إنها معادلة القوة والضعف. الضعف يأتي بالمزيد من الاستضعاف. لو كنا أقوى لما تجرأ دونالد ترامب.