Beirut weather 18.54 ° C
تاريخ النشر January 25, 2025
A A A
قرار العدوّ بعدم الانسحاب: «خيار الدولة» على المحكّ
الكاتب: علي حيدر - الأخبار

لم يكن مفاجئاً إعلان العدو عدم انسحابه الكامل وفق اتفاق وقف النار، بالتنسيق مع واشنطن، كونه ترجمة لمنهج العدو الثابت في استغلال أي اتفاق ومحاولة تحويره أو توظيفه، ودائماً بغطاء ودعم أميركيين. لكن الأهم هو الالتفات الى أن عدم تحقيق الأهداف الاستراتيجية للحرب، والسياق السياسي الداخلي اللبناني والعقبات التي تلوح أمام المخطط الأميركي في لبنان ودعم إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب لهذا القرار، تؤكد على أن أبعاده في هذه المرحلة تتجاوز البعد الجغرافي والميداني والأمني الذي يتذرع به العدو، ويتصل أيضاً بأكثر من عنوان سياسي واستراتيجي.

يؤشر إعلان قيادة العدو عن ربط قرار عدم الانسحاب، قبل الإعلان الرسمي وبعده، بالموقف الأميركي مجدداً إلى مدى ارتباط السياسات العدوانية الإسرائيلية بالمخططات الأميركية في لبنان. وأن واشنطن تبقى صاحبة الكلمة النهائية في هذا المجال، ويتجلّى ذلك بوضوح أكبر مع إدارة ترامب الجديدة. ففي هذه القضية بالذات، تحتاج تل أبيب أيضاً الى احتضان ودعم الولايات المتحدة لأنها تتعلق بتنفيذ اتفاق كانت هي الراعي والضامن والمسؤول عن صياغته وتنفيذه. أضف الى أن العدو يراهن على ضمان الضغط الأميركي لتجيير موقف السلطة السياسية في لبنان بما يساهم في تقييد خيارات المقاومة، سواء عبر وضعها في مواجهة الدولة في حال بادرت الى خطوات عملياتية ضد قوات الاحتلال، أو السعي الى إحداث شرخ عميق في مرحلة انتقالية حساسة على المستويين اللبناني والإقليمي.

من الطبيعي أن يُغلِّف العدو عدم التزامه بتنفيذ الانسحاب الكامل في موعده، بمنطق تبريري يهدف الى إضفاء نوع من المشروعية عليه. فاعتبر بيان صادر عن مكتب نتنياهو أن المادة ذات الصلة بمسألة الانسحاب تمت صياغتها انطلاقاً من فهم أن «مسار الانسحاب يمكن أن يستمر بما يتجاوز الـ 60 يوماً». يُشير ذلك الى نية مبيّتة بعدم الالتزام بمدة الـ 60 يوماً وبالتنسيق مع الإدارة الأميركية، معتبراً أن «مسار انسحاب الجيش مشروط بانتشار الجيش اللبناني في جنوب لبنان وأن يفرض بشكل تام وفعال الاتفاق… انطلاقاً من أن اتفاق وقف النار لم يُفرض بشكل تام من قبل الدولة اللبنانية». أي أن كيان العدو يهدف من خلال إبقاء قواته الى الضغط على الدولة اللبنانية من أجل خطوات أكثر دراماتيكية في مقابل المقاومة، مع ضرورة الالتفات الى أن للعدو تفسيره للاتفاق بما يتجاوز جنوب الليطاني. وبعبارة أكثر مباشرة، سيتم تحديد طبيعة الخطوات الإسرائيلية، وتوقيتها وحجمها، سواء عدم الانسحاب أو اعتداءاتها، بما يتلاءم مع متطلبات المخطط الأميركي الذي يعمل على شطب أو تهميش المقاومة في مؤسسة القرار السياسي اللبناني، تمهيداً لخطوات لاحقة بما هو أبعد من هذا المفهوم. ويصبح هذا المسار أكثر وضوحاً مع الفقرة التي تلت في البيان بأن «مسار الخروج المتدرج سيتواصل بتنسيق تام مع الولايات المتحدة». أي علينا أن نوطِّن أنفسنا بأننا سنكون أمام المزيد من المواقف والخطوات العدوانية التي سيكون إيقاعها على وقع التطورات الداخلية في لبنان، ومع جدول الأعمال الأميركي المرسوم والمُحدَّد الأهداف. وهذا دليل إضافي على فشل العدو في تحقيق أهدافه الاستراتيجية ولذلك أصبح المطلوب استمرارها بأدوات أخرى وفي ساحات إضافية وبوتيرة أكثر ضبطاً.

البيان جاء بعد جلسة للمجلس الوزاري المصغر تقرر فيها، من دون تصويت، عدم استكمال الانسحاب، مع توجيه رسالة بأن جيش العدو سيردّ على خروقات حزب الله بشدة. ومهّدت إسرائيل لهذا القرار بحملة سياسية وإعلامية، برز من ضمنها ما قاله السفير الإسرائيلي في واشنطن، مايك هرتسوغ، الذي لعب دوراً في التواصل مع إدارة ترامب، بأن الإدارة الأميركية تدرك الاحتياجات الأمنية الإسرائيلية، وبأن الاتفاق الذي ينص على انسحاب الجيش الإسرائيلي يوم الأحد المقبل، «ليس محفوراً في الصخر، و(إنما) جرت صياغته بحيث تكون هناك ليونة معينة»، متجاهلاً بذلك أن هذا الكلام يعني أنه يمكن للمقاومة ولبنان أيضاً أن لا يلتزما ببنود أخرى تحت العنوان نفسه.
لكن ممّا يُجمل المفهوم الحاكم للأداء الإسرائيلي، ما ورد على لسان وزير الخارجية جدعون ساعر، بأن الانسحاب «يجب أن يتم وفقاً لاحتياجات إسرائيل الأمنية وبشكل تدريجي»، مع الأخذ بالحسبان المفهوم الإسرائيلي الواسع لحاجات إسرائيل الأمنية، الذي يشمل كامل الأراضي اللبنانية والبيئة الإقليمية!

مع ذلك، فإن خرق العدو للاتفاق عبر عدم الانسحاب الكامل من الأراضي اللبنانية يساهم في تعزيز صورته كمتوثّب للمبادرة والرد، وينطوي على رسالة بأنه مستعد للرد والمواجهة، ولو لم يكن الى مستوى حرب في المدى المنظور. وهو أمر حرص المجلس الوزاري المصغر على التأكيد عليه بأن الجيش سيردّ على كل خرق للاتفاق من قبل حزب الله. ومن الطبيعي والمُرجح أن تكون تداعيات هذا الخيار قد درست خلال الجلسة، انطلاقاً من أن هذا القرار سيستند الى تقدير في أحد اتجاهين، إما أن تبادر المقاومة الى عمليات دراماتيكية، أو ترى أنه ينبغي تجنب هذا الخيار في هذه المرحلة، انطلاقاً من ضرورة عدم توتير الوضع الأمني وعدم تأزيم الوضع السياسي مع الدولة اللبنانية.
يُضاف الى ذلك أن بقاء قوات الاحتلال في لبنان يوفر مادة له ولأعداء المقاومة في الداخل والخارج من أجل تعميق خدش صورة صمود المقاومة وما ترتّب على ذلك من فشل قوات جيش العدو في التوغل برياً في جنوب لبنان، مع أن المسؤولية الأولى تقع في هذه المرحلة على الدولة اللبنانية كونها تصدّت لمواجهة هذه التحديات منذ التوقيع على اتفاق وقف النار، على أن ذلك سيكون بداية استحقاق مفصلي سيبقى يلاحقها في المرحلة القادمة.

تبقى الرسالة الأهم لهذا القرار، أن خطوات العدو بما فيها استمرار احتلاله هي جزء من أوراق الضغط بهدف التأثير على الدينامية السياسية الداخلية في لبنان في الاتجاه المرغوب أميركياً وإسرئيلياً. وهو ما أجملته يديعوت أحرونوت بالقول «في إسرائيل يشخّصون فرصة تاريخية بمنع إعادة صعود جهات إرهابية (المقاومة) داخل لبنان».
رغم ما تقدم، فإن الخطوة تنطوي على نقاط ضعف وثغرات أثارت مخاوف جهات أمنية وعسكرية إسرائيلية، وهي جهات حذَّرت من تداعيات هذه الخطوة. مثل أنها توفر للمقاومة المزيد من المشروعية لتنفيذ عمليات عسكرية مدروسة وفي التوقيت والأسلوب الذي تراه مناسباً. وتُقوّض أيضاً منطق الرهان على الخيار الدبلوماسي في مواجهة الاحتلال، وبالتالي إضعاف منطق أعداء المقاومة وخصومها داخل لبنان.

يتقاطع هذا المفهوم مع تقدير ومخاوف عبّرت عنها الجهات الأمنية ذاتها، بحسب «يديعوت أحرونوت»، من أن إسرائيل تتبع بذلك «سياسة خطرة كونها تهدد الإنجازات الاستثنائية للحرب». ولفتت الصحيفة الى مخاوف من أن تؤدي هذه الخطوة الى تعزيز حزب الله في إشارة الى إضعاف منطق الدولة وتعزيز منطق الحاجة الى المقاومة. وتنسحب هذه المخاوف أيضاً، بحسب التقديرات ذاتها، على أن الخطوة تشكل تهديداً للميزة التي تهم إسرائيل وهي الحضور – النفوذ الأميركي في لبنان الذي سيتعرض للخطر في حال انهيار اتفاق وقف النار.

في الخلاصة، يشكل الاستحقاق محطة مفصلية في قراءة وتقدير المشهد اللبناني، الذي ثبت مرة أخرى، أن أي محاولة لاستكشاف معالمه ومآلاته بعيداً عن موقع إسرائيل ودورها المباشر وغير المباشر، هي قراءة ليست ناقصة فقط وإنما مشوّهة أيضاً، وتنطوي أيضاً على تعمية متعمدة من أجل تمرير المخططات وإضفاء طابع مغاير لحقيقتها. ويعني ذلك أيضاً أن إسرائيل هي جزء رئيسي من الأوراق التي سيتم استخدامها أميركياً في سياق المرسوم للبنان. ويشكل هذا المفهوم أحد أهم مداميك الفكر الاستراتيجي للمقاومة. بعبارة أخرى، إسرائيل أحد أطراف موازين القوى في الخريطة اللبنانية. واعتداءاتها وخططها العدوانية عامل رئيسي في رسم معالم المشهد السياسي في لبنان، هذا ما كان وهو أمر أكثر وضوحاً في هذه المرحلة.