Beirut weather 16.32 ° C
تاريخ النشر June 27, 2023
A A A
قراءة مختلفة لمسألة سليمان فرنجيه
الكاتب: جهاد الزين - النهار

 

أخبرني مرة الصديق النقيب رشيد درباس نكتة عن الزغرتاوي المطلوب للقضاء الذي كان يمر صباح كل يوم، وهو ذاهب الى عمله، على مخفرالدرك في زغرتا فيترك مسدسه “أمانة” في المخفر ويعود مساء لاستلامه في طريق عودته إلى منزله.

هذه هي زغرتا في المخيلة الشعبية اللبنانية. مدينة قبضايات وزعامات لا تعرف “السياسة” سوى كونها هكذا: الزعيم يحمي جماعته. ولكن”السياسة” في لبنان قبل 1975 كانت بمعظمها كذلك: زعامات وقبضايات. فلماذا نخصّص زغرتا وحدها!؟ هذه الحياة السياسية اللبنانية التي كانت تعيش في ظل ميركنتيلية تجارية مزدهرة تحوّلت بعد 1975 إلى عصابات إجرام في كل المناطق تحت يافطات أيديولوجية.

(الراحل) سمير فرنجيه في كتابه “رحلة إلى أقاصي العنف” يعتبر أن أحداث مزيارة عام 1957 كانت مؤشرا مبكرا على العنف الشديد الذي سيصل إليه لبنان، كل لبنان، عام 1975.

روى لي مرة (الراحل) منح الصلح أن عمه رئيس الوزراء (الراحل) تقي الدين الصلح سمع الرئيس (الراحل) سليمان فرنجيه (الجد) يقول لابنه طوني وهما يقفان على شرفة قصره في زغرتا: “هنا في لبنان يجب أن تقاتل بيديك للدفاع عن زعامتك”. طوني، والد المرشح الحالي لرئاسة الجمهورية سليمان فرنجيه، سيُقتل غدرا مع عائلته، باستثناء صدفة غياب حمت نجله سليمان، في جريمة فظيعة لا تزال تهز لبنان الى اليوم وستهزه طويلا في الآتي من الأيام مهما ثَقُل ضميرُ اللبنانيين والموارنة بالمجازر والضحايا. لقد استلزم هذا التحول العنفي آنذاك الذي عبّرت عنه مجزرة إهدن تدخّلَ الدولةِ السورية بكل إمكاناتها لموازنته في الرد على المجزرة وتداعياتها. انطوت مجزرة إهدن على عنف مفاجئ سيكشف عمقَ التحول الذي تشهده بنية الأحزاب اللبنانية وفي المقدمة منها “حزب الكتائب” الذي كان النموذج السبّاق لكيف سيؤول إليه لاحقا “حزب الطائفة” في لبنان ولاسيما “الحزب التقدمي الاشتراكي” و”حركة أمل” وفي آخر الصف التاريخي “تيارالمستقبل” الذي لم يستطع، رغم شعبيته الواسعة، أن يصمد في لعبة التنظيم العنفي عام 2008 فانهار مثلما انهار قبل ذلك وخلال الحرب الاهلية “حزب الوطنيين الأحرار” أمام الكتائب، ربما بسبب الجذور اللبنانية الأكثر والأعمق تنوعاً طائفياً التي كانت للزعامة الشمعونية والتي جعلتها أقل قابلية من “الكتائب” ومولودها “القوات اللبنانية” للذهاب إلى “أقاصي العنف” الجديد. كل هذه النماذج “المتشابهة” كأحزاب عصب طائفي ستتراجع إلى الوراء أمام تقدم نموذج مختلف وغير مسبوق أفرزته التجربة اللبنانية وفيه تزاوجُ نُطْفتيْ العنف اللبناني والإرث الإيراني العريق في العمل السري، حتى ليحار المراقب من أين أتت هذه الكفاءة الأمنية السرية في تنظيم “حزب الله” الذي لا يزال سرياً فيما المادة البشرية التي صيغت منها هي مادة تشبه اللبنانيين العاديين الآخرين وبالتحديد المادة البشرية الشيعية في قرى ودساكر الجنوب والبقاع وضواحي بيروت.

هناك أربع قضايا كبرى في الوضع اللبناني الراهن:

1- النازحون السوريون.
2- ترسيم وضبط الحدود مع سوريا.
3- الحالة البنيوية التي يعارضها فعليا معظم اللبنانيين والمتعلقة بوجود جيش “حزب الله”.
4- الفساد المستشري في الحياة السياسية كتعبير عن سيطرة المنظومة المافيوية على الدولة.
5- أموال المودعين التي سرقتها المصارف اللبنانية بتواطؤ أكيد من كل المنظومة بلا استثناء.

لا شك في أن علاقة سليمان فرنجيه الوثيقة بالرئيس السوري بشار الأسد تجعله المرشح الأكثر فرصة لفعل شيء مختلف في حل أو التخفيف الجذري من مشكلة النازحين السوريين. كذلك فإن علاقته بالمحور السوري الإيراني تجعله صاحب فرصة أكثر من غيره لضبط النشاط العسكري لـ”حزب الله” على الأرض اللبنانية وعلى الحدود اللبنانية الإسرائيلية، لاسيما أن مبررات هذا النشاط لم تعد عمليا موجودة مما يمكن فرنجيه وإيران وسوريا معا من التزام “سياسة دفاعية” تسمح بتهدئة سياسية للنشاط العسكري من دون صعوبات تُذكر وبردع أي مغامرة عسكرية لـ”حزب الله” ضمن هذه السياسة الدفاعية شكلاً ومضموناً.

الميزة الثالثة التي يتميز بها سليمان فرنجيه عن غيره هي فرصته في تفعيل مفاوضات مع سوريا بعدما تمّ الاتفاق الإيراني الإسرائيلي الاميركي على ترسيم الحدود اللبنانية البحرية الغازيّة مع إسرائيل بما يشبه معاهدة سلام دولية بين لبنان وإسرائيل بل بما هو فعلا معاهدة دولية تحظى بتأييد بل بحماسة غالبية الشعب اللبناني من كل الطوائف.

أما البند الرابع (الفساد) فعلينا أن ننساه ليس فقط لأن فرنجيه جزء من المنظومة، بل لأن كل مرشح آخر ستختاره المنظومة سيكون جزءا منها. فرنجيه لا يستطيع أن يواجه فساد الدولة العميقة، ولكن من يستطيع ذلك من أخصامه المعروفين؟ كذلك ليس من مرشح ولا من حزب أساسي مساهم في اختيار المرشحين هو خارج الارتباط بمصالح القطاع المصرفي وعدد كبير منهم محامو بنوك بالمعنى الحرفي، مما يلغي أي ميزة تفاضلية لكل الأسماء المطروحة على سليمان فرنجيه المرتبط بصداقات عميقة مع مصرفيين، كغيره.

هكذا إذن فإن الخيار الواقعي والفعال في الانتخابات الرئاسية يجعل لسليمان فرنجيه ثلاث ميزات لصالحه قطعا، وهي بعيدا عن التجليط الاعلامي، ميزات حقيقية في ثلاث قضايا كبرى من خمس:

1- النازحون
2- ترسيم الحدود مع سوريا
3- الضبط السلمي لـ”حزب الله”.

لهذا من زاوية معينة وقد تبدو حاملة للمفارقة اليوم إلى حد الطرافة، فإن وصول سليمان فرنجيه إلى الرئاسة سيشكِّل “مشكلة” لصديقتيه سوريا وإيران، على الأقل، على المسرح السياسي لأن إنجاح عهده سيكون مستحيلا من دون إحراز تقدم في هذه الملفات الرئيسية الثلاثة. ولذلك فإن سوريا وإيران ستكونان معنيتين بإنجاح مهمته الثلاثية أمام الرأي العام اللبناني وتحديدا المسيحي والماروني. أما الموقف الفرنسي فمرتبط بمصالح ضخمة لم تظهر فقط في لبنان، بل سبقتها في الضخامة في العراق وربما مستقبلا في إيران، بينها في العراق حزمة صفقات لشركة “توتال” على مدى سنوات مقبلة من 27 مليار دولار بينما بدت شركة “توتال” في اتفاق الترسيم البحري الإيراني الاميركي الإسرائيلي على الحدود اللبنانية الإسرائيلية وكأنها “ممثلة” عملياً للجانب اللبناني!

لقد تأخر كثيرا الفريق السياسي والإعلامي حول سليمان فرنجيه قبل جلسة 14 حزيران في التركيز على قدرته في إحراز تقدم في هذه الملفات (النازحون، الترسيم، جيش “حزب الله”) مما سمح بالتقليل من أهمية رصيده المحتمل في رسم مستقبلها. ربما كان سبب هذا التقصيرالخوف من ارتكاب أخطاء ومبالغات في أي تعهد يبديه فرنجيه حين يتعلق الأمر بمصالح دول وأنظمة لاسيما بين النظام السوري والسياسة الأوروبية والغربية.

على أي حال بدأ فريق فرنجيه في تصحيح هذا الخطأ الإعلامي كما لاحظتُ في طريقة كلام ابنه النائب طوني خلال مقابلة أجريت معه مؤخرا.

يهوّل اللبنانيون على بعضهم البعض، بل يحترف اللبنانيون، وخصوصا السياسيين وبعض الإعلام، التهويل على بعضهم البعض، ويحاضر رؤساء الميليشيات بالعفاف، لكن الواقعية في بلد مأزوم ومهدد وجودياً بالفساد والديموغرافيا والدولة المنهارة، تتطلّب اختياراتٍ وبحثاً في الاختيارات بعيدا عن هذا التهويل. والمفارقة أن سليمان فرنجيه الذي ليس لديه سوى كتلة صغيرة في البرلمان هو في العمق وبالمعاييرالاجتماعية اللبنانية أكثر تمثيلا ورسوخاً مارونيا من آخرين.

إنه زعيم من المنظومة ولكن مَن هم فعلاً غير المافيويين بين سياسيين لبنانيين، بعضهم قَتَلَة ولصوص بالمعنى الحرفي للكلمة، لكي نرجم فرنجيه وحده؟