Beirut weather 20.41 ° C
تاريخ النشر November 4, 2018
A A A
“قاتل الحضارات”… هل تنجو منه البشريّة؟
الكاتب: جورج عيسى - النهار

بعد الثورة الصناعيّة، دخلت الأرض تدريجيّاً في عصر التغيّر المناخيّ مع إطلاق غازات الدفيئة بكمّيّات ضخمة في الغلاف الجوّي. لكنّ هذه الظاهرة ليست فريدة في تاريخ هذا الكوكب. لقد مرّت الأرض بعدد من المحطّات التي شهدت تغيّراً مناخيّاً جذريّاً لم يكن للإنسان يد بإطلاقه كما هو الحال عليه اليوم. خلال تلك المحطّات، تأثّرت حضارات مختلفة بهذا التغيّر، حتى وصل الأمر إلى أفول قسم كبير منها. يمكن لبعض المراحل التاريخيّة معطوفة على دراسات حاليّة أن تقدّم فكرة مهمّة عن خطورة الموقف الذي تتعرّض له البشريّة عندما تواجه تحدّياً من هذا النوع.
تحت الرمال
يشرح مدير برنامج “علوم الأرض الصلبة والمخاطر الطبيعيّة” في مختبر الدفع النفّاث التابع لوكالة “ناسا” رون بلوم أنّ الحضارات نشأت بطبيعة الحال بعدما استقرّ مناخ الأرض منذ حوالي 11500 سنة. وكان هذا الحدث هو ما أمّن ديمومة المحاصيل على امتداد السنوات إذ إنّ المصدر الموثوق به للغذاء مكّن البشر من الاستقرار في مكان واحد ثمّ تطوير الثقافة. كان بلوم يتحدّث خلال إلقاء الضوء على أبحاث حول اكتشاف مدينة أوبار التاريخيّة التي دُفنت تحت الرمال في سلطنة عمان. واستطاعت “ناسا” تحديد مسارات قوافل تاريخيّة أرشد تقاطعها الباحثين إلى اكتشاف آثارها في تسعينات القرن الماضي، بفضل صور جويّة تابعة لمختبر الدفع النفّاث. ومع أنّها واقعة في واحدة من أكثر المناطق جفافاً إلّا أنّ أوبار كانت مصدراً مهمّاً للمياه ومركزاً لتجمّع القوافل، قبل أن تختفي تحت الرمال بفعل التصحّر منذ قرون عدّة.
ماذا حصل مع “المايا”؟
ساهم التغيّر المناخيّ بانهيار الحضارات، كلّيّاً أو جزئيّاً، على فترة طويلة من الزمن. وفي حين كانت أوبار قد تعرّضت لاجتياح الرمال، ابتعلت النباتات والأشجار الضخمة حضارات أخرى كما حصل مع “المايا” التي انهارت بطريقة خاصّة كما كتب نيكولاس موت في مجلّة “ناشونال جيوغرافيك” الأميركيّة. بين سنتي 300 و 660 ميلاديّة كانت هنالك حوالي 60 مدينة لتلك الحضارة يقطن كلّ واحدة منها بين 60 إلى 70 ألف شخص. محاطاً بالمباني الحكومية والأهرامات، تناقش شعب المايا في الفلسفة ووضع تقويماً دقيقاً للسنة الشمسيّة. لكنّ كلّ ذلك حدث في السنوات المطيرة الاستثنائيّة بين 440 و 660. ابتداء من هذه المرحلة وحتى انتهاء الألفيّة الأولى، عاد المناخ إلى طبيعته السابقة فسادت سنوات طويلة من الجفاف. بُني النظام السياسيّ والدينيّ لتلك الحضارة على اعتقاد بأنّ الحكّام كانوا على تواصل مباشر مع الآلهة، وحين فشل هذا التواصل بإنزال المطر ثارت الاضطرابات الاجتماعيّة. وحلّت ضربة الجفاف شبه القاضية بين سنوات 1020 و 1100.
حضارة عمرها 5000 سنة
عند الحديث عن التغيّر المناخيّ، لا يتعلّق الوضع دوماً بانهيار الحضارات. وإذا كان لدى المايا الكثير من الألغاز التي تحيط ببروز وتبدّد حضارتهم، فقد يكون في أميركا اللاتينيّة المزيد من الأسرار عن حضارة أخرى تأثرّت بهذه الظاهرة. سنة 2001، تمّ اكتشاف ما يشبه الأهرامات المسطّحة في البيرو وقد بلغ ارتفاعها حوالي 25 متراً. بحسب جوليا لايتون من موقع “هاو ستاف ووركس”، هذه الآثار أقدم من تلك الموجودة لدى حضارتي الفراعنة والإنكا إذ عمرها حوالي 5000 سنة. اللافت للنظر أنّ هذه الآثار اكتُشفت في منطقة شبه صحروية اليوم. لذلك من المرجّح أن يكون سكّان الساحل قد انتقلوا إلى الداخل مع تكرار ظاهرة “النينو” التي جعلت صيد السمك صعباً. وتتابع لايتون أنّه هناك، ومع تحوّل المناخ إلى رطب، استطاع النازحون تطوير الزراعة وتبادلوا بضائعهم مع صيّادين لازموا منطقة الساحل (16 كيلومتراً عن موقع الاكتشاف)، ومن هنا، التفسير المحتمل لوجود عظام سمكيّة بالقرب من الآثار. ودامت تلك الحضارة حوالي 1000 سنة قبل أن يعود الجفاف ويضطر المزارعون للانتقال إلى مكان آخر.
ملاحظات
من أميركا إلى أفريقيا وصولاً إلى آسيا، إنّ الأمثلة عن مساهمة التغيّر المناخيّ في اندثار الحضارات أو على الأقل نهاية سلالات حاكمة فيها، أكثر من أن تُحصى. إنّ أيّ حضارة بحاجة للاستقرار كي تنمو وتزدهر، ولا يمكن ضمان هذا الاستقرار إلّا باستدامة الموارد الغذائيّة التي يؤمّنها في غالب الأحيان انتظام مناخيّ رطب طوال قرون على الأقلّ. طبعاً، لا يعني أيّ مناخ رطب ولادة حتميّة للحضارة إذ تبقى طريقة استجابة الإنسان للظروف المناخيّة المحيطة به عاملاً حاسماً آخر في هذا الإطار. فعلى سبيل المثال، ليس كلّ نهر مولّداً للحضارات على مدى العصور ولا حتى داخل العصر الواحد.
في جميع الأحوال، هنالك ما هو مثير للانتباه لدى الحديث عن التغيّرات المناخيّة في العصور القديمة. صحيح أنّ القسم الساحق من الأسباب كان طبيعيّ المنشأ، لكن في بعض الأحوال، ساهم الإنسان في مفاقمة آثارها. فبالعودة إلى حضارة المايا، أدّى القطع الشامل للأشجار إلى تقليص تسرّب الرطوبة من الأرض باتّجاه الغلاف الجوّي معرقلاً دورة الأمطار الطبيعيّة. وأدّى الجفاف المحلّي إلى تقليص رطوبة الجو من 5 إلى 15% سنويّاً. وحتى 10% هي نسبة كارثيّة على المستوى البيئي، كما يوضح عالم المناخ بنجامين كوك وفقاً لمجلّة “ناشونال جيوغرافيك”.
من خلال مقارنة مع ما يجري اليوم، يمكن إدراك ما يتسبّب به إنسان اليوم من ضرر على البيئة. فشعب المايا ساهم بقطع الرطوبة عن الغلاف الجوّي بمجرّد زيادة قطع الأشجار. حصل ذلك بوسائل غير متطوّرة ومن دون ضخّ غازات الدفيئة كما يحصل اليوم، لذلك، يمكن تصوّر مدى التداعيات الكارثيّة التي يتسبّب بها إنسان اليوم بالنسبة إلى ما كان يجري خلال قرون خلت عند التعامل مع البيئة.
قاتل الحضارات
ترجّح دراسة حاليّة أن يكون التغيّر المناخيّ “قاتل الحضارات” بما فيها تلك المتقدّمة وقد يقضي أيضاً على الحضارة الإنسانيّة الحاليّة. عالم الفيزياء الفلكيّة والأستاذ في جامعة روشستر آدم فرانك قاد فريقاً لإجراء بحث عن كيفيّة تعامل أي حضارة متقدّمة على مستوى الكون مع التغيّر المناخيّ. وفقاً لثلاثة سيناريوهات من أصل أربعة إنّ حضارة كهذه ستتعرّض للفناء. يشير أحد السيناريوهات إلى أنّ حضارة أدركت وتمكّنت من التأقلم مع ارتفاع درجات الحرارة عبر تخفيض استخدام الموارد ذات التأثير الكبير على النظام البيئي، يمكن لها أن تنجو. لكنّ المشكلة بحسب فرانك وجود سيناريو آخر تتحرّك فيه حضارة ما لمواجهة التغيّر المناخيّ عبر اللجوء إلى الطاقة المستدامة، ومع ذلك، تتعرّض للفناء بسبب تأخّرها في تلمّس الواقع.
إلى الآن، لا يستطيع الباحثون تحديد مصير الأرض بشكل نهائيّ. لكنّ ذلك لا يعني الاستكانة تجاه ما يجري اليوم إذ إنّ التحرّك العاجل ضرورة قصوى لزيادة فرص البقاء. ويحذّر الأستاذ الجامعيّ من تداعيات عدم المسارعة لمعالجة التحدّيات موضحاً: “حتى إذا تراجعتَ وبدأتَ باستخدام الطاقة الشمسيّة وغيرها من الموارد الأقلّ تأثيراً، يمكن أن يكون الأوان قد فات…”.