كتبت هدى علاء الدين في “لبنان الكبير”
في خطوة لافتة تعكس تصاعد القلق الأوروبي من تنامي مخاطر غسل الأموال وتمويل الإرهاب، أدرج الاتحاد الأوروبي لبنان رسمياً في العاشر من حزيران على قائمته السوداء للدول عالية المخاطر، والتي تعاني من قصور استراتيجي في أنظمتها الوطنية لمكافحة هذه الظواهر. ويُعدّ هذا التصنيف إجراءً بالغ الأهمية على المستويين المالي والتنظيمي، إذ يجسّد واقعاً اقتصادياً وسياسياً شديد التعقيد، ويضع لبنان أمام تحديات كبرى قد تُلقي بظلال ثقيلة على اقتصاده المتعثر وعلاقاته المالية مع المجتمع الدولي.
سياق القرار
يأتي القرار الأوروبي في ظل أزمة مالية واقتصادية خانقة يعيشها لبنان منذ سنوات، تجلّت بانهيار غير مسبوق لليرة اللبنانية، وشلل القطاع المصرفي، واتساع العجز المالي، وتآكل احتياطيات مصرف لبنان. ويعكس التصنيف تقييماً سلبياً يستند إلى تقارير مجموعة العمل المالي “فاتف” ومؤسسات دولية تُعنى بسلامة النظام المالي، وذلك في ضوء فشل السلطات اللبنانية في تنفيذ إصلاحات جوهرية، أبرزها قانون “الكابيتال كونترول”، وإعادة هيكلة القطاع المصرفي، وتعزيز استقلالية القضاء.
وقالت المفوضة الأوروبية للخدمات المالية، ماريا لويس ألبوكيرك، إن التحديث الأخير للقائمة يُظهر التزام الاتحاد الأوروبي بالمعايير الدولية، وحرصه على التناسق مع تقييمات “فاتف”. ومن المتوقع أن تدخل القائمة حيّز التنفيذ خلال شهر، ما لم يقدّم البرلمان الأوروبي أو الدول الأعضاء اعتراضات.
وتُعدّ هذه القائمة أداة ضغط مركزية تهدف إلى تشجيع الاصلاحات التنظيمية وتحقيق مزيد من الشفافية في الدول المُدرجة. وبينما يُحتمل أن يؤدي هذا التصنيف إلى عزلة اقتصادية جزئية وإضعاف ثقة المستثمرين، فإن الخروج منه يُعدّ بمثابة تصويت ثقة على الجهود الاصلاحية ويُسهم في ترميم السمعة المالية للدولة المعنية.
التداعيات الاقتصادية والأبعاد السياسية
من المرجح أن يؤدي التصنيف إلى تراجع انخراط المؤسسات المالية الأوروبية في السوق اللبنانية، ما يضعف تدفقات رؤوس الأموال ويُقوّض فرص الاستثمار الأجنبي المباشر، الذي يُعد ركيزة أساسية في أي مسار لتعافي الاقتصاد اللبناني. كما سيُلزم القرار المؤسسات المالية الأوروبية باتباع إجراءات امتثال مشددة عند التعامل مع الجهات اللبنانية، ما يعقّد العمليات المصرفية ويزيد تكلفتها، ويُضعف قدرة لبنان على إجراء تحويلات مالية أو جذب تمويل خارجي.
ويتجاوز القرار أبعاده التقنية إلى أبعاد سياسية واضحة، إذ يشكّل ورقة ضغط أوروبية على الحكومة اللبنانية للدفع نحو إصلاحات ملموسة في مجالات الحوكمة، والشفافية، ومكافحة الفساد. كما يبعث برسالة إلى المجتمع الدولي مفادها أن الاتحاد الأوروبي لم يعد يتساهل مع الدول التي تتقاعس عن تنفيذ التزاماتها الاصلاحية، حتى في ظل أزماتها الداخلية.
وقد ينعكس القرار أيضاً على طبيعة التعاون المالي والاقتصادي بين لبنان والاتحاد الأوروبي، إذ يُرجّح إخضاع المساعدات التنموية والمشاريع المشتركة لمزيد من التدقيق والمراجعة، وربما تعليق بعض أوجه الدعم المشروط بتحقيق تقدم فعلي في مسار الاصلاح.
خريطة طريق للخروج من الأزمة
لا يمكن للبنان الخروج من القائمة السوداء من دون التزام مسار إصلاحي واضح وجذري. ويشمل ذلك إعادة تفعيل الهيئات الرقابية، ولا سيما هيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان، وضمان استقلاليتها الكاملة عن التأثيرات السياسية. كما يستوجب الأمر تحديث الاطار التشريعي لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وتعزيز الرقابة على القطاعات غير النظامية، ومعالجة أزمة استقلالية القضاء التي تُعد مدخلاً أساسياً لإعادة بناء الثقة.
وعلى الرغم من أن التصنيف الأوروبي لا يرقى إلى مستوى العزلة الكاملة التي يفرضها تصنيف “فاتف”، إلا أن انعكاساته على البيئة الاقتصادية اللبنانية ستكون كبيرة، كونه يُنذر بانهيار الثقة الدولية بالنظامين المالي والسياسي، ويعكس غياب الحد الأدنى من الاصلاح والامتثال للمعايير الدولية.
بكلمات أوضح، لم يعد لبنان في نظر الاتحاد الأوروبي مجرّد دولة تعاني أزمة اقتصادية، بل بات يُنظر إليه كمنظومة مالية ضعيفة وفاقدة للمصداقية، ما يُحتم استجابة عاجلة وشاملة تعيد بناء الثقة المفقودة داخلياً وخارجياً.