Beirut weather 22.41 ° C
تاريخ النشر December 29, 2022
A A A
فخ الديون الذي تمارسه الدول العظمى على دول العالم
الكاتب: باسم المجذوب - اللواء

 

 

 

التاريخ يعيد كتابة نفسه فدورة التاريخ قد تعيد نفس الأحداث ولكن في ظروف مختلفة وقد تكون أحيانا متشابهة وقد يكون أبطالها هم أنفسهم ليس كشخصيات إنما كرموز.

حين لعبت الولايات المتحدة الأميركية دور كبير في سنوات الحرب العالمية الأولى, فهي لم توفر أي دعم عسكري لأي من الأطراف المتنازعة في الحرب, وإن استعرضنا الأحداث التي كانت بداية صعود الولايات المتحدة لتتبوأ الصدارة في قوة وعظمة اقتصادها اليوم لوجدنا شبه كبير مع ما يستجد حاضرنا من تطورات مشابهة في مساراتها وظروفها لتجعل التاريخ يستعيد دورته, فمع بداية الحرب العالمية الأولى كانت الولايات المتحدة محايدة سياسيا ولكنها لم تكن محايدة اقتصاديا حيث انها حرصت منذ الأيام الأولى للحرب على توفير الدعم المالي للبريطانيين والفرنسيين في حربهم ضد الألمان.
لعبت في بداية الصراع دور المرابي, لكن بعد ان طال أمد الحرب وجد البريطانيون والفرنسيون انهم في حاجة الى قروض كبيرة إذا أرادوا أن ينتصروا في هذا الصراع, ومن هنا ظهر «مورغان» مؤسس جي بي مورغان بنك في المشهد, حيث كان أكثر من سعيد بتقديم هذه القروض لهم, فقد منح الحكومتين البريطانية والفرنسية قرضا بقيمة 500 مليون دولار وهو ما اعتبر حينها أكبر قرض في تاريخ وول ستريت, كان مورغان قويا كفرد ويتمتع بنفوذ كبير جدا, استمرت الحرب, وبفضل تلك القروض والإمدادات الأميركية للحلفاء طال أمدها, بل انه بخلاف ذلك عمل مورغان كوسيط حيث قام بنفسه بشراء احتياجات الحلفاء من الطعام والسلاح وإرسالها إليهم دوريا.
من هنا كانت ظروف صعود الولايات المتحدة كقوة اقتصادية عظمى لأول مرة في التاريخ. باختصار موّل المستثمرون الأميركيون المذبحة وحرصوا طوال الوقت على أن لا تنفذ الخنادق وساحات المعارك من السلاح والذخيرة, كان الحلفاء يحصلون على القروض من المستثمرين الأميركيين باليمين ويعطونها الى المصانع الأميركية التي توفّر لهم الإمدادات باليسار, فتحوّلت المصانع من الانتاج المدني الى الانتاج العسكري, وقام المزارعون الأميركيون بزرع المزيد من الحبوب لإطعام القوى المتحاربة في أوروبا.
في البداية لم يهتم الأميركان بهوية المنتصر , ولكن مع تزايد حجم القروض البريطانية والفرنسية المملوكة لمستثمرين أميركيين شعرت الولايات المتحدة بضرورة الوقوف الى جانب لندن وباريس إذا أرادت أن تسترد أموالها.
بعد انتهاء الحرب استخدمت واشنطن ورقة الديون في إعادة تشكيل توازن القوى العالمية وقامت باستدعاء القادة الأوروبيين الى البيت الأبيض بدل من الاجتماع بهم في عواصمهم وحصلت منهم على تنازلات كبيرة مقابل تحسين شروط الدين, «فالديون تذل». أما الدول التي اشتكت من صعوبة شروط السداد وعدم قدرتها على السداد, نصحتها الولايات المتحدة بخفض انفاقها الأمني والعسكري, وهكذا ظهر نظام أوروبي جديد يعيش تحت مظلة الحماية الأميركية.
ما أشبه اليوم بالأمس, فالحرب الروسية – الأوكرانية يطول أمدها بفضل الإمدادات الهائلة للسلاح التي توفرها الولايات المتحدة لأوكرانيا وقد زادت عن الخمسين مليار دولار في الأشهر الثلاثة الأولى منذ بدء الحرب في 24 شباط 2022 وبالطبع لن تكون دون مقابل ولا مكرمة, فمع انتهاء الحرب ستكون الدولتين المتحاربتين وأوروبا بمعظمها منهكة, وستكون الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة التي لم تنل منها الحرب, فهي بعيدة عن ساحات المعارك وآثارها, ومساعداتها اللامحدودة لن تكون بلا ثمن, فكلفة إعادة اعمار أوكرانيا ستكون بمئات المليارات من الدولارات, ولن يجد العالم من يقوم بتلك المهمة أفضل من الولايات المتحدة , وستكون أوكرانيا وأوروبا بمعظمها مرهونة للسيطرة الأميركية من جديد, أما الطرف الثاني الذي نافس الولايات المتحدة على قيادة العالم سيكون أضعف بكثير مما كان عليه إن اقتصاديا أو عسكريا أو ماليا خاصة ان العالم قد فرض عليه عقوبات لم تفرض على طرف أو دولة في التاريخ الحديث, وقد تورّط بحرب حدّد بدايتها لكنه لن يكون من يحدد نهايتها ومتى وكيف.

هل ستتحول الصين لتلعب الدور الذي لعبته الولايات المتحدة الأميركية في سنوات الحرب العالمية الأولى؟؟
في السعي الدؤوب للصين لإحتلال دور الصدارة في التجارة العالمية يوجد شبه كبير بين الأمس واليوم وبين ممارسات الولايات المتحدة الأميركية والصين للوصول الى غاياتهم, مع فارق ان الولايات المتحدة غالبا ما تلجأ للقوة العسكرية لتحقيق سيطرتها على اقتصاديات دول العالم في حين تلجأ الصين الى استغلال حاجات الدول الفقيرة وأحيانا فساد حكامها للوصول الى سيطرتها وعلى تحويل تلك الدول الى رهائن لسيطرتها وحصر تبادلاتهم التجارية بها.
فالمشروع الحلم «حزام واحد طريق واحد» أو مشروع المستقبل طريق الحرير الجديد بهدف إحياء طرق التجارة القديمة البرية والبحرية والتي تضم في باطنها مسارات تستهدف كتلة بشرية هائلة والتي واجهت مخاوف وآراء في دول العالم كانت ما بين الترهيب والترغيب بحسب المخاطر والمصالح لكل منها, عمدت الصين في تفاصيل مشروعها الحلم إضافة الى تحقيق إعادة المسار لتاريخ التجارة الدولية لتكون هي القوة التجارية البديلة عن الولايات المتحدة الأميركية, الى بسط سيطرتها على أجزاء من أوروبا وأفريقيا وآسيا عن طريق إغراقها بديون ثقيلة مستغلّة حاجتها الماسّة لتمويل اقتصادياتها الضعيفة وأحيانا المنهارة, مع علمها ان تلك الدول ستعجز عن إيفائها مستقبلا.
دول أوروبا وخاصة الشمالية لا تخفي قلقها من إخفاء طموح الصين للهبمنة على العالم, ونظرا لغموض حلم إعادة طريق الحرير «حزام واحد طريق واحد» تلتزم عدة دول أوروبية الحذر, وعلى وجه الخصوص ألمانيا وفرنسا التي باتت تخشى أن تتنبه أوروبا متأخرة عندما تصبح قطاعات كاملة من البنى التحتية في أوروبا الوسطى والشرقية تابعة للصين.
فمرفأ بيريوس اليوناني جنوبي العاصمة أثينا وهو أحد أكبر المرافئ في اليونان ومنطقة البحر الأبيض المتوسط ومن أكثر المرافئ الأوروبية إزدحاما, انتقل الى السيطرة الصينية عام 2016 حيث صادق البرلمان اليوناني على بيع 67 في المئة من المرفأ الى مجموعة كوسكو عملاق الشحن الصيني عبر المحيطات, ويجيز القرار للعملاق الصيني استثمار المرفأ حتى سنة 2052 مقابل 368 مليون يورو واستثمارات ورسوم سنوية تدفع للحكومة اليونانية لقاء تشغيل المرفأ, وتُعد هذه الصفقة جزءا من إعادة النظر في الإصلاحات التقشفية اليونانية, كما تُعد خطوة في اتجاه خصخصة مجموعة من الأصول العامة الرئيسية في الدولة, أما بالنسبة للصين فهي خطوة في مشروع طريق الحرير الجديد لربط أوروبا بالصين.
بريطانيا هي من أكبر المؤيدين للمشروع خاصة انها عوّلت عليه بديلا لخروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي وتجلّت مساهمتها بمشروع ضخم من الطريق وهو قطار الصين لندن الذي انطلقت أولى رحلاته في الأول من كانون الثاني 2017 من مدينة يويو الصناعية في اقليم تشينجيانغ شرق البلاد ثم عبر كازاخستان وبيلاروسيا وبولندا وألمانيا وبلجيكا وفرنسا ومنها عبر نفق المانش الى بريطانيا وقد قطع أكثر من 12 ألف كيلومتر في 18 يوما للوصول الى لندن, وتترجم هذه الخطوة رغبة الصين في تعزيز علاقاتها التجارية مع غرب أوروبا من خلال إعادة إحياء طريق الحرير الذي كان يؤمّن وصول البضائع الثمينة إلى أوروبا, خدمة الشحن تلك تؤمّنها شركة سكك الحديد الصينية العامة وتعتبر أقل كلفة من النقل الجوي وأسرع من النقل البحري, وقد اعتبرت بريطانيا حينها على لسان رئيسة وزرائها ذلك الوقت تيريزا ماي, ان العلاقة مع الصين تتيح فرصة ذهبية لتوظيف مليارات الدولارات مع بريطانيا بعد خروجها من الإتحاد الأوروبي.
كما باتت الصين أول شريك اقتصادي مع أفريقيا وبلغت في 2016 حجم المبادلات 190 مليار دولار كي تتعدى حجم المبادلات مع الهند وفرنسا والولايات المتحدة مجتمعة, وتعدّت المبادرة جهود التوسع وتصدير المنتجات الى إنشاء البنى التحتية الضرورية لتلك الدول بمنحها قروضا لا تستطيع سدادها, مما يعطي الصين القوة والقدرة على التأثير في تلك الدول, والمخاطرة ان تلك المشاريع قد تكون عرضة للفشل ونافذة لسوء استخدام تلك الأموال من طبقة حاكمة موصوفة بالفساد, وهذا ما وقع فعلا في بعض الدول النامية كسريلانكا وباكستان والسودان وجيبوتي بالوقوع في «فخ الديون الصيني», لدرجة ان بعض تلك الدول سلّمت موانئ وثروات طبيعية خاصة بها للصين وميناء جوادر الباكستاني وتحويله الى نقطة وصل تربط الصين بالشرق الأوسط والخليج وأفريقيا وأوروبا بعد وضع اليد عليه يمثل حلقة في تلك السلسلة, كما ان مصر ليست ببعيدة عن تلك المخططات, فمرفأ السويس قد يكون من أحد المرافئ ضمن المسار, وعلى صعيد قناة السويس فمصر رضخت لمطالب الجانب الصيني بتخفيض رسوم العبور بالقناة بقيمة 50% للحاويات الصينية التي تمثل نسبة 23% من إجمالي الحاويات المارة بالقناة, وذلك لعدم تحويل التجارة الصينية لخط السكك الحديدية الجديد الذي يربط بكين بأوروبا أو باستخدام مسارات بديلة في المحيط الهادئ وقناة بنما.

وقد أعلنت الصين عن حجم استثماراتها المتوقعة في القارة الأفريقية بـ 60 مليار دولار وانشأت بالفعل عدة مصانع إقليمية في أفريقيا سواء في جيبوتي أو كينيا أو رواندا, إضافة الى مشاريع ضخمة لإعادة تأهيل البنى التحتية في تلك الدول.
ما بين نعومة الحرير الصيني وقساوة الحديد الأميركي حرب طاحنة يدفع ثمنها العالم من توتر في أحواله الأمنية وعدم استقرار في أوضاعه الاقتصادية, نشهد تطوراتها في أكثر من بقعة في عالمنا وتتنقل بحسب الظروف الملائمة لها, فينمو الكبار وتنمو صراعاتهم وينمو نفوذهم على حساب الضعيف من دول العالم.