Beirut weather 20.41 ° C
تاريخ النشر April 14, 2016
A A A
عن وطن الحرف… والحرب!
الكاتب: الياس قطّار - البلد

للبنان جبهاتٌ يحار فيها المواطن الباحث عن المعتدي المقنّع. للبنان جبهاتٌ لا تنتهي، منها ما يجرجر ذيوله منذ عام واثنين وأكثر ومنها ما هو وليد العام الجاري. للبنان أمراء حرب جُدد من مستغشمي الشعب والمرتقين بنظرية أن الحرب لا تكون إلا بالأسلحة والنفَس الميليشيوي. للبنان بنادق من طحين ورشاشاتٌ من مياه ودباباتٌ من عملاء ومَدافع من نفايات.

حروبٌ أقسى فصولًا
اليوم، يعيش الشعب اللبناني حروبًا من نوع آخر. حروبًا بطلتها النفايات وفساد اللقمة والماء واستيطان الشغور والشلل المؤسساتي وبروز ملفات الأمن المهجور من الدولة الى المطار الى الانترنت. حروبًا قد تكون أقسى فصولاً من تلك التي عاشها اللبنانيون منذ 41 عامًا ركونًا الى حقيقة أنها تحمل موتًا بطيئًا مقنّعًا غير مباشر وغير مصرَّح به. أوَليس تعزيز الشغور الرئاسي حربًا معنويّة يعيشها المسيحيون أولاً واللبنانيون ثانيًا؟ أوَليس إبقاء الرئاسة الأولى بلا رئيس يملأ فراغها حربًا ضدّ الدولة برمّتها، لا بل ضدّ سمعة لبنان وهيبة منصبه الأول المسيحي الأوحد في منطقة يهجرها مسيحيوها؟ رغم أن الخطاب الطائفي كان مدماكًا من مداميك الحرب الأهلية، بيد أنه هو المعشّش في النفوس المتلطّية تحت سقوف طائفتها خوفًا من الآخر، يفرض نفسه في كلّ مرة تشعر طائفة بغبنٍ في منصبها، وهي الحال في ملف أمن الدولة الذي رفع “أدرينالين” الكنيسة الكاثوليكية وصلواتها كي لا “يُسلَب” المنصب لغير ابن الطائفة.

أمُّ الحروب…
أوَليست النفايات أمَّ الحروب لا بل جريمة ضدّ الإنسانية ارتكبها كلّ مهملٍ في حقّ صحة المواطنين. جريمة تكاد تكون أكثر بشاعة من تلك التي يتحدّث عنها “المتفتّقون” أنفسهم عندما يشيرون بالإصبع الحيّ الى سورية وبراميل النظام وإعدامات “داعش”؟ أوَليس كافيًا موت العشرات من الحالات المُعلن عنها وغير المُعلن عنها، وإصابة نصف الشعب لا بل أكثر بأمراضٍ غريبة تارةً تُلصَق أسبابُها بالطقس وطورًا بفيروساتٍ مستوردة، فيما الأنوف تتنشّق نفاياتٍ والأفواه تأكل نفاياتٍ والأقدام تسير على نفايات والأيادي تعانق نفاياتٍ والعيون تشبع نفايات؟ أوَليست كافية حربُ التنصيب التي لعبها “مستغنمو الفرص” في ملف النفايات من جيوب الشعب “ليربّحوه جميلًا” بأنهم سيرفعون أوساخه من شوارع الذل ظنًا منهم أنهم بطمرها إنما يطمرون تسعة أشهر من القرف والنُتن؟

بحثٌ عن كلّ الأمن
تُشارف حرب النفايات على الانتهاء من دون أن تنتهي فعليًا بل ظرفيًا إذ قد تكون ما بعدها حربُ نهب جديدة. تُشارف حربٌ على نهايتها على أنقاض حروبٍ أخرى بطلتها الحكومة العاجزة المستعجزة التي إن التأمت فعلى خلافٍ وإن لم تلتئم فعلى خلاف، فيما المشاريع والقرارات عالقة والمواطن ينتظر فرجًا في أمنه وقوته وإنترنته. وبالحديث عن كلّ ذلك، وصلت الحرب الى لقمة عيش اللبناني فدار “التناتش” بين وزيرين وحار المواطن في خبزٍ مطابقٍ وآخر غير مطابق. طُوِيت الصفحة جزئيًا على عكس باقي الحروب التي بقيت عالقة، فلم ينَم أمن المطار هانئًا ولا أفل نجم الإنترنت غير الشرعي في انتظار الحكومة الباحثة عن أمنٍ آخر ما هو إلا أمن الدولة العالق طائفيًا.

سياسة تجويع
أوَليس العبث بلقمة عيش المواطن والتناحر على صلاحية القمح من عدمها حربًا نفسيّة ضدّ المواطن؟ أوَليس التسابق على قطف ثمار “أمجاد” الكشف عن القمح المهترئ الذي غدا معظمه في أمعاء اللبنانيين حربًا أقوى من قتل الشعب وتهجيره وتدمير أملاكه؟ ربما هي سياسة تجويع تُشبه تلك التي عانى منها الشعب خلال الحرب وما زالت مناطق عدة تقاسيها كي يبقى سكانها أسرى اليوم الانتخابي المجيد ومفتاحًا من مفاتيح فوز هذا الزعيم أو ذاك. أيًا يكن، لا حرب تعلو حرب مقارعة اللبناني في قوته اليومي، في عيشه، في خبزه الحيّ الذي يجنيه من تعب لحمه الحيّ.

أقوالٌ باهتة
لم تأتِ ذكرى الحرب الواحدة والأربعون بجديدٍ على لبنان واللبنانيين. المشهدية نفسها ترتسم أمام عيونهم ولكن بأسلحةٍ أخرى، أسلحة معيشيّة تتماهى مع أشكال حروب المنطقة التي ما عاد السلام فيها يحسم معركةً واحدة من سلسلة معارك. المكان نفسه، الدرجُ نفسه، الصلاة الموحّدة نفسها، أما النفوس فظمأى للتخلّص لا من ذكرياتٍ أليمة فحسب بل من معارك تُخاض ضدّها بشكل مباشر أو غير مباشر. كلُّ شيءٍ على حاله، الدموع نفسُها، القناعاتُ نفسها، الندمُ نفسُه… وحدها الترجمات تشذّ عن الإطار العام الغارق في جملة خطاباتٍ ونُصحٍ وأقوالٍ باهتة.

لعبة القدر
ما الذي تغيّر في الذكرى الواحدة والأربعين؟ ليس الكثير سوى ورقةٍ واحدة خطها فريقان ضالعان في الحرب بحروفٍ من نوايا ومحبّة هذه المرة لا بحروفٍ من دم. اتفق الجنرال ميشال عون والدكتور سمير جعجع. ها هما اليوم يستذكران كلّ المآسي، ربما يندمان في قرارة نفسيهما وربما يحاولان التعالي على تلك الجراح ونكئها بإقناع نفسيهما بأن الظروف في تلك الأعوام لم تشبه ظروف اليوم وبأن القدر لعب ضدّهما وعاد لينصفهما في العامين 2015 و2016. من زرعت الحربُ البغضَ في جدرانهما وقلوب ناسهما تجاوزاها بسرعة البرق، فرح بعض المسيحيين وغضب آخرون ممن عجزوا “عن قلب الصفحة” لأن شهيد البيت لم تجفّ ثيابه المبللة بالدم بعد. كان على الرجلين أن يطردا ذاك الشبح الذي فرض عليهما كرهًا طوال 39 عامًا حتى ما بعد عودة عون وخروج جعجع. كان عليهما أن يطهّرا تاريخًا ما عرف الطُهرَ يومًا إلا في دموع أمهات الشهداء وحسرة آبائهم.

كيف يتذكّرانها؟
اليوم كيف يتذكرانها؟ يتذكرانها بنوايا وورقة وترشيح رسمي وبلديات مشتركة وهواجس واحدة. يتذكرانها في محاولاتٍ بائسة وربما فاعلة لتعويض ما مضى وغسل الأيدي تحت عناوين براقة عدة. هو القدر نفسه الذي جعل من أحدهما منفيًا من قصر بعبدا وحالمًا بالعودة اليه، ومن ثانيهما سجينًا سياسيًا تحت عنوان “مجرم حرب” برّأه القضاء بعد 11 عامًا. هو نفسه ذاك القدر الذي زرع أبشع أنواع الكره والعداء والحساسية بين جمهوريهما، يعود اليوم ليرسم مشهدية شارعين متماوجين بأعلام عونية وأخرى قواتية في وحدة حال ولسان. هي نفسها فلول الحرب عادت لتجمع نواب التيار الوطني الحر والقوات تحت سقف البرلمان بمطلبين نالوا أولهما (قانون استعادة الجنسية) وما زالوا في انتظار الثاني بلا مهادنة (قانون الانتخاب). هي نفسها فلول الحرب ستفرز تحالفاتٍ غير متوقعة في المعارك البلدية بين رجلي المرحلة الغابرة والحاضرة. هي نفسها فلول الحرب ستمحو كلّ ما خطه الرجلان في سجلاتهما، أحدهما على رأس المؤسسة العسكرية وثانيهما على رأس ميليشيا مسيحية، من رصاص وتهجير وقتل على الهوية.

لن يفعلوا…
ربما ورقة النوايا تلك كانت الحرب الوحيدة التي لا تُخاض ضدّ المسيحيين، وربما حوار حزب الله-المستقبل هو وحده الحرب التي لا تُخاض في صفوف المسلمين المشتّتين الباحثين عن وحدة حال ولسان لا يمكن تحقيقها إلا باتفاقٍ إيراني – سعودي. ويبقى الأهم أن اللبنانيين يكذبون إن قالوا إنهم نسوا الحرب أو حتى تناسوها. لن يفعلوا طالما بعض الأمهات ما زلن يتّشحن بالأسود بعد 41 عامًا على ابنٍ سقط. لن ينسوا طالما أن أمهاتٍ أخرياتٍ لم يزلن مؤمناتٍ بأن أبناءهنّ المخفيين قسرًا ما فتئوا أحياء يُرزقون. كيف ينسى هؤلاء وحروبٌ من نوع آخر تطرق أبوابهم كلّ يوم، تُذكّرهم بأنهم في لبنان، وطن الحرف والحرب… وشتّان ما بينهما.