Beirut weather 13.54 ° C
تاريخ النشر July 19, 2022
A A A
عن مغارات الهدر في لبنان: أخطبوط حيّ ويركُل!
الكاتب: كارين عبد النور - نداء الوطن

الإضراب المفتوح لموظفي القطاع العام دخل أسبوعه الخامس ومستمرّ. والتوقف في ظلّه عن جباية الضرائب وتحصيل الرسوم وتعطيل مؤسسات الدولة هو خلف التقهقر الحاصل ـ كما يحلو لأهل الحل والربط الإيحاء – كأن ما سبق الإضراب كان «سمناً على عسل». التضخّم غير المنطقي في حجم القطاع له ما له وما عليه بالطبع. لكن إلقاء الملامة على الموظف الرسمي بالدرجة الأولى يحمل في طيّاته الكثير من التضليل. ففتيل الهدر بنكهة الفساد – الذي بدأت مفاعيله تظهر جليّة في عجز الموازنة والمالية العامة كما في عجز الميزان التجاري منذ العام 1993 – إمتداداته أكثر تشعّباً وأشدّ تجذّراً. وكما يقال: الأرقام لا تكذب.

الهدر، وبأقل تقدير، هو مزيج متفجّر من عوامل عدة: تدخّلات سياسية في عمل القضاء، تفعيل حصانات كضمانة للإفلات من العقاب، زبائنية في التوظيفات داخل الإدارات العامة، ومحاصصات طائفية. فالأخيرة أدّت، بحسب البنك الدولي، إلى تحميل الخزينة العامة كلفة هدر سنوي تخطت الـ5 مليارات دولار. لا بل أكثر. فلبنان، بحسب مؤشر مدركات الفساد العالمي الصادر عن منظمة الشفافية الدولية بنسخته الأخيرة، صُنّف في المرتبة 154 بين 180 دولة في العالم. كيف لا ومكافحة الفساد داخل مؤسسات الدولة وإداراتها كما ضمن سياساتها المالية والتوظيفية والصفقات بالتراضي أثر بعد عين؟ ذلك كلّه تُرجم تراكماً في الدين العام وفوائده، تهرّباً ضريبياً وتوظيفات عشوائية، هدراً متمادياً في ملفات الكهرباء والطاقة واستئجار المباني الحكومية وقطاع البنى التحتية والسدود وغيرها من لائحة تطول ولا تنتهي.

إسأل عن فوائد الدين العام

ثمة آراء عدة تُطرح حول أسباب الأزمة، لكن من البديهي عدم تحميل القطاع العام مسؤولية الانهيار، كما يقول مدير المحاسبة السابق في وزارة المالية ورئيس الهيئة الأهلية لمكافحة الفساد، الدكتور أمين صالح في حديث لـ«نداء الوطن»: «أسباب الأخير واضحة وجليّة وتعود بنسبة 90% منها إلى عوامل داخلية». ولأن عبارة الدين العام تقض مضاجع اللبنانيين أكثر من غيرها لانعكاساته الكارثية على حياتهم اليومية، منه نبدأ. فالأخير، إذ بلغ 103 مليارات دولار، يتكوّن من مبالغ أقرضتها المصارف أو كبار المودعين والسياسيين والأجانب للدولة. وكنتيجة مباشرة للتضخّم والارتفاع الهائل في الفوائد على الدين، شكّلت الأخيرة ما نسبته 93% من الدين الإجمالي (أي حوالى 96 مليار دولار)، إذ لو حُسمت الفوائد من الدين العام لما تخطى الـ7 مليارات. ويضيف صالح: «فوائد الدين العام مؤامرة على الشعب اللبناني. هناك منظومة فاسدة تتألف من سياسيين وزعماء طوائف ورأسماليين مصرفيين اتّفقت على تقاسم المال العام عبر سياسة الاستدانة التي لم نكن نحتاجها أساساً. فلو حذفنا نفقات الدين العام من الإنفاق الحكومي لوجدنا فائضاً في موازنة الدولة».

من جهتها، السياسة النقدية والهندسات المالية المتّبعة من قِبَل مصرف لبنان بدون وجه حق، والتي اعتمدت على تثبيت الليرة على سعر صرف 1500 مقابل الدولار مع إعطاء فوائد عالية للمصارف فعلت فعلها أيضاً. فقد أدّت إلى الخسائر الكبيرة التي أصابت المصرف المركزي والتي يتكّبدها الشعب اللبناني بعد أن فاقت الـ175 مليار دولار. «انفجرت الأزمة فاتّجهت السلطة إلى تغطية حاكم مصرف لبنان بقانون يساهم في تخفيض الدين العام عبر اللجوء الى وسيلة نقدية تتلخص بخفض قيمة العملة الوطنية وزيادة الأسعار والضرائب»، برأي صالح. لكن ثمة ما هو أبعد من الدين وفوائده.

 

إعفاءات وتهرّب والهدر ثالثهما

إن كان للهدر أوجه عدة، فالإعفاءات الضريبية المنصوص عنها في القوانين أحدها بالتأكيد. والحال أن غياب ضريبة عامة على الدخل كما عدم شمول الضرائب كل طبقات المجتمع انعكس ولا يزال سلباً على واردات الدولة. كيف ذلك؟ تقوم الدولة بجباية حوالى 76% من وارداتها من الضرائب غير المباشرة من الطبقتين الفقيرة والوسطى. أما الضرائب المباشرة كضريبة الدخل والممتلكات العقارية وغيرها والتي تتعلّق بأثرياء البلد فهي لا تتخطى الـ5.5%. «تعود الجباية غير العادلة إلى توليفة النظام السياسي، ما سمح بالإعفاءات الضريبية لسوليدير وشاغلي الأملاك العامة البحرية، كما إعفاءات بيع الأسهم في شركات الأموال والمصارف، وإعفاءات مخصّصات الديون المشكوك في تحصيلها للمصارف. كل هذه الإعفاءات تقرّرها السلطة السياسية الحاكمة وبالتالي الموظف ليس مسؤولاً عنها»، على حدّ قول صالح.

العضو القانوني في المرصد الشعبي لمكافحة الفساد، المحامي جاد طعمة، بدوره، أشار في اتصال مع «نداء الوطن» إلى أن التهرّب الضريبي لا يقل عن ضعفين إلى ثلاثة أضعاف الضرائب المحصّلة حالياً ويقف وراءه كبار المكلفين والمصارف. هذا إضافة إلى طبقة الأثرياء والشركات الكبيرة ناهيك بالإحتكارات ومافيات النفط والغاز والمحروقات وكارتيلات الغذاء والأدوية. وفي جولة سريعة على الأرقام، يتبيّن أن التهرّب الضريبي الذي يقارب الـ4 مليارات دولار سنوياً يتوزع بين ضريبة دخل (1.9 مليار دولار)، ضريبة على القيمة المضافة (1.6 مليار دولار)، فواتير كهرباء وتعليق (400 مليون دولار) ورسوم عقارية (200 مليون دولار). ثم تأتينا أيضاً مسألة الرسوم الجمركية. فالتلاعب بالرسوم في المرفأ والمعابر الحدودية والمطار كما عمليات التهريب عبر المعابر غير الشرعية لا سيما إلى سوريا – والتي بلغ عددها 136 معبراً – حمّل خزينة الدولة خسائر لا تقلّ عن 700 مليون دولار.

بالنسبة لطعمة، يُعتبر مرفأ بيروت أبرز مغارات الهدر في ملف التهرّب الضريبي إذ تُقدَّر قيمة الهدر فيه بحوالى 400 مليون دولار سنوياً نتيجة التهريب والتحايل الجمركي والتلاعب في الرسوم والبيانات، أو تمرير البضاعة عبر الخط الأخضر. وهكذا، لم يكن مستغرَباً إن كان أول مطالب مؤتمر سيدر التصدي لهذه الآفة. ويتابع طعمة: «هذا دون أن نغفل الأزمة السورية وما رافقها من تهريب مواد عبر المعابر الحدودية لتشمل تهريب مواد ومحروقات مدعومة لو تمّت المحافظة عليها لتمكّنت الدولة من الاستمرار في دعم الشعب المنهار. فلبنان لا يمكنه تغطية احتياجات السوق السورية حيث تبتلع الأخيرة المواد اللبنانية المدعومة دون أن تكفي حاجاتها».

الرزق السايب…

استباحة الأملاك العامة البحرية دون أي قانون ينظّم القطاع ملف شائك يحدّ هو الآخر من حجم عائدات الدولة. المسألة هنا تطال فئة من المحظيّين سياسياً ممن قرّروا إقامة منتجعات سياحية على طول الشاطئ اللبناني دون تسديد أي بدلات إشغال لتلك الأملاك. وفي وقت تخطى حجم التعدّيات 4.5 ملايين متر مربع، يقدّر خبراء أن تسديد البدلات من شأنه تأمين إيرادات ضخمة للدولة تُقدَّر بحوالي 250 مليون دولار سنوياً على الأقل. لكن الأمور متروكة على غاربها.

تسألون عن فضيحة أكبر؟ إنها ملف بدلات إيجار المباني الحكومية (وبعضها فارغ تماماً) الذي تُقدَّر نسبة الهدر السنوي فيه بين 136 و150 مليون دولار. «كان هناك قانون لتشييد أبنية للإدارات العامة على الأملاك والعقارات التي تملكها الدولة وبطريقة منظّمة وحضارية، إلّا أنه لم يبصر النور كون جميع المنتفعين من العقود من الطبقة الحاكمة وذويهم. بالمقابل، تمتلك الدولة عقارات تُقدَّر قيمتها بمئات ملايين الدولارات وتقوم بتأجيرها بمبالغ زهيدة وما العقار الذي أقيم عليه نادي الغولف سوى خير دليل على ذلك»، كما يردف طعمة. وإليكم المزيد: كلفة إيجار مبنى الإسكوا منذ العام 1997 تخطت الـ180 مليون دولار، في وقت يُعتبر هذا المبلغ كافياً لتغطية 40% من النفقات المتعلقة بمشروع بناء الأبنية العائدة لإدارات الدولة العامة. أضف إلى ذلك تكلفة استئجار مباني السفارات اللبنانية في الخارج، كما مخصصات الحفلات التي تقيمها الأخيرة وبعض الرواتب الخيالية التي يتقاضاها موظفو السلك الدبلوماسي الخارجي. فبعض هؤلاء يُقدَّر راتبهم بعشر المخصّصات المالية التي يستطيعون الاستحصال عليها شهرياً من خزينة الدولة.

 

زحمة مؤسسات وصناديق

نعود إلى صالح الذي يلفت إلى «وجود 240 مؤسسة عامة في لبنان لا تتوخى الربح ويمكن الاستغناء عنها إذ تبلغ تكلفتها السنوية حوالي 3500 مليار ليرة – أي ما يفوق ملياري دولار على سعر صرف 1500 – على الأقل. نحن بحاجة فقط إلى مؤسسة كهرباء لبنان والجامعة اللبنانية في حين أن كافة الصناديق والمؤسسات العامة الأخرى يمكن دمجها في الوزارات المختصة». ونذكر هنا على سبيل المثال: الهيئة المنظّمة للاتصالات، الهيئة الناظمة لقطاع الكهرباء، الهيئة العليا للإغاثة، الهيئة الناظمة للبترول، صندوق المهجرين، صندوق الجنوب ومجلس الإنماء والإعمار.

من ناحيته، اعتبر طعمة أن أساس الهدر هو مخالفة مبدأ الشمول والشيوع من خلال إنشاء بعض الصناديق. فمبدأ الشمول يرتكز على أن تشمل الموازنات المقدّمة كافة النفقات والإيرادات دون تعمية على أي منها ودون موازنات لاحقة أو دفاتر جانبية. أما مبدأ الشيوع، فينصّ على أن تدخل كافة تحصيلات الإدارات العامة إلى المالية العامة للدولة لتُوزَّع الأموال بحسب قانون الموازنة على الوزارات، تفادياً لأن يكون لكل وزارة صندوق خاص بها تستخدمه دون حسيب ولا رقيب.

باختصار، كانت هذه الصناديق بمثابة الترجمة الحقيقية لمكامن الهدر في المالية العامة. فمنها ما هو متوقف كلّياً عن العمل وتبلغ موازناتها السنوية حوالي 20 مليون دولار أميركي، على غرار المجلس الأعلى السوري اللبناني (600 ألف دولار)، معرض رشيد كرامي الدولي (260 ألف دولار)، مصلحة سكك الحديد والنقل المشترك (8.5 ملايين دولار)، إدارة البريد والبرق (4.5 ملايين دولار)، المؤسسة العامة لترتيب الضاحية الجنوبية الغربية لبيروت «أليسار» (2.2 مليون دولار)، المشروع الأخضر (1.6 مليون دولار) والمؤسسة الوطنية للاستخدام (1.8 مليون دولار). ثم هناك ما هو بحاجة منها للدمج ضمن وزارات أخرى ويكبّد الدولة مبلغ ملياري دولار سنوياً، نذكر مثلاً: مؤسسة كهرباء لبنان (1.4 مليار دولار أميركي)، مجلس الإنماء والإعمار (440 مليون دولار)، الهيئة العليا للإغاثة (44 مليون دولار)، هيئة إدارة السير والآليات والمركبات (30 مليون دولار) والمجلس الاقتصادي والاجتماعي (1.3 مليون دولار).