Beirut weather 20.41 ° C
تاريخ النشر August 17, 2023
A A A
عن رجل من هيبة
الكاتب: من كتاب "بعدك على بالي" لطلال شتوي

كان أول حديث للرئيس سليمان فرنجيه بعد عودته من مؤتمر جنيف.
ولكن فاتني أنه، ايضا، أول حديث له في “الأفكار” التي كانت لا تزال في سنتها الثانية!
لم يتردد “الأستاذ” في القول لي أنني تسرّعت في طلب المقابلة، وأنه كان يخطّط لزيارة الى الرئيس فرنجيه، تقوم بها كل أسرة المجلة.
اكتشف وليد عوض أن “حفلة” الأمس أتت متأخرة! واكتشفت أنا أن عليّ ازالة كل الهواجس من رأس الرجل الذي فتح أمامي كل الأبواب!
طلب مني أن أحضّر أسئلتي جيدا… وطلبت منه بشكل تلقائي أن يحمّلني الأسئلة التي ينبغي أن أطرحها على قامة باسقة في الزعامة والسياسة بمستوى سليمان فرنجيه، خصوصا وأن الرئيس السابق للجمهورية، وقطب جبهة الخلاص الوطني، كان “نجم” مؤتمر جنيف الذي يعتبر أول مؤتمر مصالحة بين اللبنانيين.
وانطلقت الى زغرتا، ومعي هذه المرّة محمد حوماني، الذي كان المصوّر المتخصّص بالحوارات التي يجريها “الأستاذ”. كان محمد أكثر نضجا وخبرة في المهنة وكواليسها وأدبياتها، مني ومن حسن، وقد اعتمدت عليه فعلا لمعرفة كيف أدخل الى قصر الرئاسة في زغرتا.
عندما أقول “قصر الرئاسة”، فأنني لا أبالغ! لقد كان قصر زغرتا في ذلك الزمن يحافظ على كل البروتوكولات المتبعة في القصور الجمهورية. وكان الساكن في قصر زغرتا يضفي على المكان هيبة مضاعفة، تضاهي هيبة قصر بعبدا بكل تشريفاته وحرسه الجمهوري.
صرخ صوت جهوري على مدخل القاعة الشاسعة التي جلس فيها الضيوف وجلست معهم: فخامة الرئيس…
ودخل سليمان فرنجيه بخطى متمهلة واثقة متجها الى مقعده المتروك له، ملقيا التحية على الجميع بأشارة من يده وبأبتسامة ودودة سريعة. رجل من هيبة…
بعد أقل من 10 دقائق صافح خلالها كل الموجودين، وقف ومشى صوب قاعة اللقاءات الصحافية، وأتى من يبلغني: فخامته بأنتظارك!
لا يستطيع أي صحافي، سواء كان محررا ناشئا أو رئيس تحرير مخضرما، أن يذهب الى سليمان فرنجيه من دون أن يحضر في رأسه “تاريخ” من المواقف والمحطات، التي جعلت من هذا السياسي اللبناني رمزا للفروسية والحكمة والشجاعة والكرامة… ما أضفى على اسمه “فخامة” لم تفارقه حتى آخر يوم في حياته!
انه سليمان فرنجيه الذي فاز برئاسة الجمهورية، عام 1970، بفارق صوت واحد، في أول وآخر انتخابات رئاسية “جدية” يشهدها لبنان! يومها حاول الشهابيون تعديل النتيجة لصالح الياس سركيس عبر اعادة الأقتراع، فوضع سليمان فرنجيه مسدسه على الطاولة أمامه وسكت! واضطر رئيس المجلس النيابي صبري حمادة الى الأتصال بالرئيس فؤاد شهاب الذي أبلغه فورا: أعلنوا النتيجة. صار لديكم رئيس جمهورية! شهاب وفرنجيه… كبيران لن يتكررا!
انه سليمان فرنجيه، رئيس جمهورية لبنان، الذي ذهب عام 1973 الى منبر الأمم المتحدة في نيويورك، بتفويض من الجامعة العربية، لكي ينقل للعالم الموقف العربي “الواحد” من قضية فلسطين المحتلة. وقد حاول الأميركان أن ينالوا من كرامته ومكانته، قبل أن يطأ أرض نيويورك، حين قرروا تفتيش أمتعته ومتعلقاته الشخصية عبر الكلاب البوليسية. يومها لم يجرؤ أحد من الوفد الرئاسي على ابلاغ فرنجيه بهذا التدبير. وحدها ابنته صونيا كانت قادرة على تمرير المعلومة له بهدوء. وخلال أقل من دقيقة علّق بكلمة واحدة: كلاب! وأمر بأدارة محركات الطائرة الرئاسية للعودة الى لبنان! وتراجع الأميركان واعتذروا. ومن يومها، حملوا للرجل كراهية واحتراما سيدومان الى الأبد…
انه سليمان فرنجيه الذي كان ركنا من أركان الجبهة اللبنانية، مع بدايات الحرب الأهلية عام 1975، ولكنه سرعان ما اكتشف، من موقعه كرئيس للجمهورية، أن الخارجية الأميركية تخطط لتهجير المسيحيين من لبنان، وأطلق على هنري كيسنجر لقب “السيّء الذكر”! وعندما أتاه المبعوث الأميركي دين براون ليبلغه أن السفن الأميركية جاهزة لنقل كل مسيحيي لبنان الى اميركا واوروبا، أشار فرنجيه بيده الى نافذة تشرف على تلال جبلية، وقال لبراون: هل تستطيع سفنكم أن تنقل معها هذه الجبال؟! وقبل أن يستوعب براون السؤال، كان فخامة الرئيس يقف ويقول بهدوء: انتهت المقابلة…
انه سليمان فرنجيه الذي وقف جبلا لا ينكسر أمام جثث ابنه وعائلته الغارقة بالدماء في اهدن صيف 1978، وتمتم كمن يسأل نفسه: لماذوا ذبحوا طفلة لم تتجاوز 3 سنوات من عمرها؟! وخرج من القصر الصيفي الذي شهد واحدة من أبشع المجازر في الحرب اللبنانية، وسط رعب وانهيار كل المحيطين به، والذين لم يمتلكوا شجاعة الأقتراب منه أو النظر في عينيه! لكنه قبل أن يغادرهم، لكي يختلي مع فاجعته، قال: “فدا لبنان”!
استقبلني بسبحته وسيجارته وعيني نسر، وأمر ببدء الحوار: هات أسئلتك…
كانت كل الأنظار متجهة في جنيف الى سليمان فرنجيه، فهو سيلتقي لأول مرة، بعد مجزرة اهدن، بالشيخ بيار الجميّل، وبرئيس الجمهورية آنذاك أمين الجميّل، بعد قطيعة دامت أكثر من 5 سنوات.
وقد فاجأ الجميع. لقد فصل المشاعر الشخصية عن الموقف الوطني. قال لي: عندما تكون القضية تتعلّق بمصير وطن، فأن القضايا الشخصية لا مكان لها! لم أصالح أحدا، ولم أسامح أحدا، ولكنني لن أكون حجر عثرة في درب قد يوصل الى مصالحة بين الطوائف اللبنانية.
صحيح أن مؤتمر جنيف كان برئاسة أمين الجميّل، وضمّ كبارا من عيار كميل شمعون ورشيد كرامي وصائب سلام وبيار الجميّل وعادل عسيران، ولكن “الرئيس” الفعلي للمؤتمر كان سليمان فرنجيه.
لقد رفض بحث أي موضوع داخلي يتعلق بالخلافات بين اللبنانيين، قبل البت بألغاء اتفاقية 17 ايار بين لبنان واسرائيل، وتحديد هوية لبنان العربية بنص واضح يزيل غشاوات النص الدستوري الذي يعتبر لبنان بلدا ذا وجه عربي!
امتنع فرنجيه طوال الحديث عن استعمال كلمة “الرئيس” عندما يذكر اسم رونالد ريغان! انه بنظره “السيد ريغان”! وأضاف بأن أميركا صارت دولة “ثرثارة”، وهي ليست من صفات الدول العظمى، وبأن تهديداتها لبلد صغير مثل لبنان “معيبة” وتعني شيئا واحدا: من يريد أن يضرب لا يهدّد!
وكالعادة، لم يحضر اسم كيسنجر في الحوار الا مسبوقا بعبارة “السيّء الذكر”، وحين اضطر لذكر اسم اسحق شامير ، حرص أن يطلق عليه لقب “رجل الشؤم”! وفي السياق، قال لي: اذا تمادت اميركا في ارسال طائراتها الى الأجواء اللبنانية، فأنا لا أستبعد أن تتصدّى لها طائرات غير سورية! كان يقصد طائرات روسية! وكان هذا الكلام عقب زيارة له الى دمشق التقى خلالها الرئيس حافظ الأسد الذي كان لا يزال يتماثل للشفاء من وعكة صحية صعبة.
لم يكن سليمان فرنجيه يثق بالغرب، وقد اقترح على المؤتمرين في جنيف، أن يعقدوا الجولة الثانية من الحوار في جدة بضيافة الملك فهد. قال لي: في السعودية ملك يفهم علينا ونفهم عليه، وسيكون أفضل من يلعب دور الحكم بيننا في حال اختلفنا، وأفضل ضامن لمقرراتنا في حال اتفقنا.
أخبرني أنه يكره “الكانتونات” قبل أن يعرفها “شخصيا”، وأنه خلال أيام مؤتمر جنيف أقام في فيللا يملكها صديقه عصام فارس في بلدة “غلان” التابعة لكانتون “دوفو”! قال لي: عندما كنت أتوجه الى جنيف، كان بوليس “دوفو” يرافقني الى الحدود، ليستقبلني هناك بوليس جنيف! هل هذا ما يريده البعض في لبنان؟ بوليس ومعبر حدودي لكل قرية…
وكاد سليمان فرنجيه يكرر ما فعله في نيويورك قبل 10 سنوات. لقد امتعض من الحاجز الألكتروني على مدخل الفندق الذي انعقد المؤتمر في احدى قاعاته. كان الزرّ الأحمر يشتعل عند مروره كل مرّة، بسبب “ذخيرة” يعلّقها في رقبته أهداها له المتروبوليت ايليا صليبي (الأرثوذكسي طبعا!). ولما طفح الكيل، قرر فرنجيه أن يقاطع المؤتمر، رافضا أن ينزع “الذخيرة” من رقبته…وتدّخل أمين الجميّل وصائب سلام وسوّيا الموضوع مع الشرطة السويسرية بالتي هي أحسن!
عدت الى وليد عوض بحوار دسم احتلّ الغلاف مع عنوان يصلح شعارا: لبنان باق باق باق!
ولكن سليمان فرنجيه لم يكن متفائلا بحلول قريبة، ولم يشأ أن ينقل تشاؤمه الى اللبنانيين الذين يعلّقون الآمال على خلاص قريب. قال لي عندما بالغت في التساؤل عن “بشائر” المستقبل: المستقبل لله، كما قال فيكتور هوغو لنابوليون الثالث…
قبل 8 سنوات على لقائي مع سليمان فرنجيه، كنت قد لمحته عن بعد، عندما زار مدرستي “الكرملية” في مبناها الجديد على احدى تلال مجدليا، وكان يومها رئيسا للجمهورية. حصل ذلك في ربيع 1975 قبل اندلاع الحرب بشهر واحد. قال لنا وقد احتشدنا في الملعب نستمع الى خطابه: أنتم ستبنون لبنان وتحافظون عليه، كما حافظ عليه آباؤكم وأجدادكم!
ما حصل فعليا، هو أننا هدمنا لبنان. و”الكرملية” صارت كتلة من الركام قبل أن نختتم سنتنا الدراسية الأولى فيها…