Beirut weather 17.43 ° C
تاريخ النشر December 18, 2025
A A A
عن التوازن السياسي اللبناني
الكاتب: ناصر قنديل

كتب ناصر قنديل في “البناء”:

يُخطئ مَن يبني على التوازنات السياسية والنيابية اللبنانية استنتاجات ثابتة وولاءات نهائية، وببساطة يمكن النظر إلى المجلس النيابي الذي انتخب عام 1972 مثالاً، فهو المجلس الذي وافق على منح التفويض للرئيس السابق أمين الجميل لتوقيع اتفاق 17 أيار، في ظل معارضة نائبين فقط هما النائب الراحل زاهر الخطيب والنائب نجاح واكيم، هو المجلس نفسه الذي قام بالتصويت على إلغاء الاتفاق، وليس التبدل في الخيارات جذرياً تعبير عن تغيّر جذريّ في قناعات النواب، لأن الحالتين في القبول والرفض تعبّران عن طبيعة التأقلم التي تشكل ميزة الحياة السياسية اللبنانية مع المناخات وتغيرات اتجاهها، ومع موازين القوى وتبدّل توازناتها.

في أمثلة مشابهة تعطينا المقارنة في تموضع الكتل النيابية تجاه العلاقة مع سورية والنظام السابق فيها، ومع المقاومة وسلاحها، وكيف تغيّرت تحت عناوين وشعارات كبرى مثل السيادة، وعادت فتغيّرت بالعكس، بحيث إن قوًى كثيرة كانت تصنف بقوى الزمن السوري في لبنان صارت بلمح البصر من أشدّ المناهضين لها، وكان سهلاً التحدث عن الانتقال إلى ضفة مقابلة تحت شعار مواكبة المتغيرات أو التحرر من الوصاية والضغوط، وفي تغير لاحق للمناخ وموازين القوى كانت سهلة العودة لقول الشيء ذاته عن مواكبة المتغيرات والتحرر من الوصاية والضغوط، وبين عنجر وعوكر تنقلت قوى وكتل كبرى، على إيقاع تحسن وتراجع العلاقات السعودية السورية أو الأميركية السورية، واللبنانيون يحبون استخدام مصطلحات لمديح من يتقنون هذه الصنعة بالقول إنهم يتمتعون بحاسة شم حادة، أو يستشعرون مكراً اتجاه الرياح، أو أن انتيناتهم تلتقط الإشارات البعيدة.

بين ليلة وضحاها انقلب المشهد النيابي من ترشيح الرئيس نجيب ميقاتي لرئاسة الحكومة إلى تبني ترشيح الرئيس نواف سلام، ولم يعرف كثيرون كيف قاموا بتسمية ميقاتي ولم تصلهم تسمية سلام، أو مدى صحة تسميتهم لسلام. وفي هذه المرحلة ومنذ جلسة 5 أيلول التي تراجعت خلالها الحكومة عن قرارات 5 و7 آب بطريقة لبقة، وعادت لربط مستقبل سلاح المقاومة بمستقبل الاحتلال، وثمة قلق سياسي ونيابي سعياً لفهم مدى وجود متغيرات نوعية إقليمياً ودولياً في الموقف من سلاح المقاومة، والمقصود تحديداً الموقف السعودي ولاحقاً الموقف الأميركي، ورصد الموقف السعوديّ عند العارفين بدءاً من الغارات الإسرائيلية على قطر، ثم التعاون الدفاعي السعودي الباكستاني، وتراجع خطاب التطبيع وربطه شرطياً بمسار الدولة الفلسطينية، ثم ظهور المواقف السعودية الإيرانية المشتركة، مع الصين مرة وبدونها مرات، وإلى جانب ذلك التعاون التركي الإيراني، والتلاقي الثلاثي التركي السعودي الإيراني، والتقارب المصري الإيراني، ومؤخراً بدء التبدل في النبرة الأميركية، حول عدم جدوى الرهان على تصادم الجيش مع المقاومة، وعدم قدرة “إسرائيل” على التخلص من حزب الله، وظهور مصطلحات مثل الاحتواء والتجميد، وعلى

على إيقاع القراءة المشوّشة لكل هذه التحوّلات تحاول القوى السياسية والكتل النيابية تلمّس خطواتها، ولأن مصادر القرار تعتمد الغموض والتلميح، منعاً لما يقول عنه الأميركيون، انهيار جبهة الحلفاء إذا وضعناها في صورة المساومات التي نجريها مع الخصوم، ولأن الخبرة متفاوتة لدى هذه القوى والكتل والشخصيّات في فهم الشيفرة، بحكم حداثة بعضها على العمل في الشأن العام، وانتماء بعضها الآخر إلى عالم الهواة لا المحترفين، فإن العارفين والخبراء باتوا يعلمون أنّه عندما يكون هناك توجّه حاسم يجري التبليغ من الجهة المعنية بكل وضوح، كما حدث في انتخابات رئاسة الجمهوريّة وعشية جلسة 5 آب، وفي المراحل الرمادية لا تسمع توجهاً بل عليك أنت أن تسأل لتسمع جواباً من نوع نحن لا نتدخل وافعلوا ما ترونه مناسباً، وهذا ما يبدو عليه الحال هذه الأيام.

يصعب أن يكون في لبنان السياسي والنيابي استقطاب حاد بين قطبين، حيث تصيغ التوازن النهائي بينهما قوة ثالثة متأرجحة تتوزّع بينهما أحياناً وتنضم إلى أحدهما أحياناً، وهكذا طار النصاب النيابي في جلسة سابقة قال الكثيرون إنها تعبير عن موقع الغالبية النيابية في كل القضايا، وهكذا يتحقق النصاب النيابي لجلسة اليوم، وسوف يخرج من يقول إنه علامة على تموضع الغالبية النيابية في موقع نهائيّ في كل القضايا، والحقيقة أن لا شيء اسمه تموضع نهائي في لبنان، ولا حرج عند الكثيرين من التموضع في الموقع وضده بين ليلة وضحاها، لكن التموضع في لحظته ليس صدفة ولا مجرد حسابات مصلحية أو فئوية أو مناطقية، لأن ترجيح كفة القوات أو كفة الثنائي له معانٍ سياسيّة ينتبه لها اللاعبون الكبار، وهي رسائل وإشارات يتعمّدونها في صندوق البريد السياسي والنيابي.