Beirut weather 20.41 ° C
تاريخ النشر June 26, 2023
A A A
عندما يغرق الفقير ويغرق الغني
الكاتب: جيرار ديب - النهار

يعيش العالم أجواء مأسوية عقب الإعلان رسميًا عن مصرع طاقم الغواصة “تيتان” التي اختفت في أعماق الأطلسي أثناء رحلة استكشافية باتجاه سفينة “تايتانيك” الشهيرة الغارقة هناك منذ أكثر من 100 عام.

أما حطام “تايتانيك” التي ارتطمت بجبل جليدي وغرقت في أول رحلة لها عام 1912، فلا يزال يرقد على عمق 3810 أمتار وعلى مسافة 1450 كيلومترًا تقريبًا شرق مدينة كيب كود بولاية ماساتشوستس الأميركية.

وفي مؤتمر صحافي، أعلن خفر السواحل الأميركي الخميس 22 حزيران الجاري، العثور على حطام الغواصة التي فُقدت قبل أيام في قاع المحيط ومصرع من كانوا بداخلها. وقال الأدميرال جون موغر للصحافيين إن مركبة آلية يمكنها الغوص في الأعماق أرسلت من سفينة كندية اكتشفت “حقل حطام” من الغواصة “تيتان” صباح الخميس 22 حزيران الجاري، في قاع المحيط على مسافة نحو 488 مترًا من مقدمة السفينة “تايتانيك”، وعلى عمق أربعة كيلومترات من سطح الماء، في زاوية نائية من شمال المحيط الأطلسي.

لا جدال في أن ما حصل هو كارثة على الصعيد الإنساني، وان غرق إنسان كائنًا من كان هو أمر محزن، ولكن ما بات ملاحظًا في هذه الحادثة، هو أنها شغلت الإعلام الدولي وركّزت اهتمامات العالم على مصير الغواصة. وتمّ تجنيد الطاقات الدولية من كندا إلى فرنسا والولايات المتحدة وغيرها للبحث عنها، الى درجة أن أي إنسان يعيش على سطح الكرة الأرضية بات متابعًا لمصير تلك الغواصة، وأصبح يدرك كل التفاصيل عن الحياة الخاصة لشخصيات الغواصين الذين كانوا على متنها، لا بل أدقّ التفاصيل في ما خصّ كلفة الرحلة التي بلغت حوالى 250 ألف دولار للشخص الواحد، وان هدف الرحلة كان استكشاف حطام السفينة الشهيرة.

بينما العالم اليوم يشهد بإعلامه ووسائل تواصله على مأساة غرق الغواصة “تيتان” التي تديرها شركة “أوشن جيت إكسبيديشنز”، ثمة في المقابل مئات #المهاجرين غير الشرعيين الذين يموتون شهريًا في أعماق البحار من دون أن يعير أحد اهتمامًا لهم باستثناء أهاليهم وبعض الأصدقاء.

وأظهرت بيانات صدرت عن وكالة التحقيقات الفيديرالية الباكستانية أن هناك ما لا يقلّ عن 209 باكستانيين بين ضحايا قارب المهاجرين الذي غرق قبالة ساحل اليونان في 14 حزيران الجاري، وكان على متنه زهاء 700 من المهاجرين من سوريا ومصر وباكستان وقد انطلقوا من ليبيا في رحلة كان من المفترض أن تنتهي في إيطاليا، لكن القارب غرق قبالة الساحل الجنوبي الغربي لليونان. وتواجه أثينا سيلًا من الانتقادات بشأن تعاملها مع الكارثة، واتهامات بشأن مسؤولية محتملة عن غرق القارب الذي كان تحت مراقبة خفر سواحلها ساعات عدة قبل الحادثة.

هذه كارثة من عشرات الكوارث التي تحصل مع فقراء من دول نامية يقرر الكثير منهم الهروب من فقر بلدانهم واللجوء إلى دول أقل ما يقال إنها تؤمّن لهم أبسط حقوقهم الإنسانية ويموتون غرقًا في قعر البحار والمحيطات. فالموت غرقًا يطاول الفقير أيضًا كما الغني ولكن بفارق بسيط هو أن الغني تتجنّد له الدول لمحاولة إنقاذه قبل وقوع الكارثة، بينما الفقير قد يموت غرقًا نتيجة إهمال الدول له.

“غريق بسمنة وغريق بزيت” كما يقول المثل الشعبي الذي بات يطبّق على التمييز بين غريق من دول العالم المتطور وغريق من دول العالم النامي، أو التمييز إن كان الغريق غنيًّا أم فقيرًا، رغم أن الموت سيكون في مشهدية واحدة على الجميع، إلا أنّ البشرية هي من تضع درجات التفاوت بين البشر.

قد يغرق الغني في البحار والمحيطات بسبب أعطال فنية تحصل في الغواصات أو السفن كما الحال مع الغواصة “تيتان” التي أحدثت انفجارًا هائلًا قبل تحوّلها إلى حطام، وقبلها سفينة “التايتانيك” التي غرقت نتيجة اصطدامها بجبل جليدي، وقد كانت مخصصة للقيام برحلة سياحية للطبقة الغنية حول العالم. ورغم كل التجهيزات وعمليات الصيانة التي ترافقت مع صنع السفن والغواصات كي تكون آمنة أكثر وقادرة على تحدي العوامل الخطرة التي ترافق رحلة الأغنياء، إلا أنّ مخاطر الغرق والموت تبقى قائمة، بينما يغرق الفقير لأنه قرّر الهجرة في قوارب غير مؤهلة تسمى “قوارب الموت” أو “العبارات” التي نتيجة جشع أصحابها يحمّلونها فائضًا من البشر عليها ويتركونهم لمصيرهم أمام مخاطر البحر ومفاجآته. كما ان الفقير في الدول النامية يقرّر الانتحار من خلال الهجرة غير الشرعية هربًا من الفقر الذي يعانيه في بلاده والذي غالبًا ما يكون بسبب جشع الشركات العملاقة المتعددة الجنسية التي تسيطر على الموارد الطبيعية للدول النامية وتستغلّ ضعف حكوماتها لأجل تحقيق مصالحها على حساب الشعب الأصلي.

أمام حرمة الموت لا غني ولا فقير، ولا إنسان من دولة نامية وآخر من دولة متطورة، بل هناك إنسان يجب النظر إليه بعين الإنسانية التي تميّز العاقل عن سائر الكائنات الأخرى. لذا يجب بذل كل الجهود للعمل على إعلاء شأن الإنسان كائنًا من كان وصولا الى مجتمع دولي أكثر إنسانية وتحضّرا، وعلى الجميع أن يرفع الصوت عاليًا مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في قمة “ميثاق مالي وعالمي جديد في باريس”، الأربعاء 21 حزيران، عندما قال: “العالم يحتاج إلى صدمة مالية لمكافحة التغير المناخي والفقر”.