Beirut weather 22.41 ° C
تاريخ النشر October 21, 2017
A A A
عميلٌ وبطل في المجلس العدلي
الكاتب: رضوان مرتضى - الأخبار

عاش لبنان أمس لحظات من التراجيديا السياسية، بطلها المجلس العدلي الذي نفذ قرار السلطة السياسية استثناء عملية تصفية الرئيس بشير الجميّل، قبل 35 عاماً، من العفو العام عن جرائم الحرب الاهلية، لتنتهي بطلب الإعدام للمقاوم حبيب الشرتوني، الذي يظل بعيداً عن الأنظار.

حُكمٌ، لن يُطبَّق، أصدره المجلس العدلي في «مسرحيةٍ» قضت ورقياً بإعدام المقاوم البطل حبيب الشرتوني بجرم قتل «فخامة الرئيس» بشير الجميل عام 1982. خُطّ أنه حكم باسم الشعب اللبناني، لكنه ليس كذلك فعلاً، تبعاً للظلامة التي يحملها بحق كل مقاومٍ للعدو الإسرائيلي، في جلسة لم يكن فيها أيّ دفاع عن «المتهم». حُكم أمس صفّق له الحاضرون، داخل قاعة أرفع محكمة قضائية، فيما كان المتجمهرون خارج قصر العدل يردّون بهتافات «لكل خائن حبيب».

وبين هذا وذاك، محامون يرفعون هواتفهم للتصوير، فيما يسترق أحدهم اللحظة ليسجّل سرّاً، عبر هاتفه المحمول، صوت رئيس المجلس العدلي جان فهد تالياً الحكم. أما القضاة فاتفقوا على رواية واحدة: «تحقيق العدالة يطوي الصفحة». قاضٍ واحد فقط بين هؤلاء رأى في الحكم بإدانة الشرتوني نزعاً رسميّاً لصفة البطولة عنه. وهذا ما رأى أنه يشفي غليل أتباع «فخامة العميل».
من يقرأ نص الحكم الذي امتدّ على ثلاثين صفحة، يعتقد بأنّ القتيل هو شخصٌ آخر غير بشير الجميّل، أو أنه ليس من انتُخب رئيساً على متن الدبابات الإسرائيلية بعد اجتياحها لبنان عام 1982. وصل الامر بأحد وكلاء المدّعين، المحامي نعوم فرح، أن يقول في مرافعته إن «الوقوف في وجه العدو الإسرائيلي ورفض توقيع معاهدة سلام معه» من الأمور التي حتّمت التخلّص من «الشيخ بشير».

* رواية مفصّلة حول الإعداد لعملية الاغتيال ونقل المتفجرات وكيف تأخر التنفيذ أسبوعين عن الموعد المقرر.

رواية الإعداد للعملية جاءت مفصّلة، وتستند الى إفادة حبيب الشرتوني التي امتدت على 336 صفحة، والتي تجاهل المجلس العدلي أنها انتُزِعت منه من قبل جهاز أمن ميليشيوي تحت التعذيب. فقبل 35 عاماً، كان ثمة «وحدة حال» بين أجهزة الدولة التي تولّت التحقيق، وجهاز أمن ميليشيا القوات اللبنانية.
يورد نص الحكم كيف تأثر الشرتوني بفكر الحزب السوري القومي الاجتماعي منذ عام 1975، بعد حضوره اجتماعات «بيت الطلبة» في بيروت قبل أن ينتسب عضوياً بعد سنتين. كذلك يتحدث عن بداية العلاقة بينه وبين المحامي نبيل العلم، المحرّض الرئيسي على اغتيال الجميّل بوصفه عميلاً لإسرائيل، والذي شغل لاحقاً منصب مسؤول «شعبة الأمن» في الحزب السوري القومي، وكيف أن العلم، بعدما بلغه أن جدّ الشرتوني يقيم في البناء نفسه الذي يضمّ مكتب كتائب الأشرفية، طلب منه جمع المعلومات، خصوصاً عن الاجتماعات التي تعقد ظهر كل ثلاثاء، بحضور بشير الجميّل. وبعد رصد الشرتوني للجميّل لثلاثة أسابيع، كلّفه العلم بنقل كمية من المتفجرات معه إلى منزل جده ليقوم شخص آخر بتفجيرها. يومها لم يوافق الشرتوني ولم يرفض.

بحسب نص الحكم، جدّد العلم اقتراحه على الشرتوني وضع المتفجرات في المبنى، بعد طرحه أسئلة حول هوية المقيمين. وكلفه مجدداً برصد الاجتماعات التي تحصل. فصار الشرتوني ينقل للعلم ما يجري في اجتماعات الثلاثاء، وأخبره عن مكتب خاص للجميّل، ثم حدد مكان جلوسه في قاعة الاجتماعات. ولاحقاً، حصل الشرتوني على خارطة هندسية قديمة تبيّن التقسيم الداخلي الهندسي للطابقين الأول والثاني، وتبيّن مواقع الأعمدة والجسور. ليعود العلم ويبلغ الشرتوني بأن أفضل طريقة لاغتيال الجميل هي وضع المتفجرات في وسط الشقة الغربية في الطابق الأول. وبعد اجتياح القوات الاسرائيلية لبنان عام 1982، كثّف الشرتوني من زياراته لمنزل العلم، وتداولا بما يمكن أن يُسفر عن تقدم قوات العدو صوب بيروت. يومها، طلب العلم من حبيب نقل المزيد من المتفجرات إلى شقة الأشرفية.

الحكم يسهب في ذكر تفاصيل إخفاء وتهريب المتفجرات التي كان يخبّئها الشرتوني في منزل خالته يولند صابر، قبل أن ينقل على دفعات نحو 47 كليوغراماً من المتفجرات مع عشرة صواعق. وبعد وصول قوات العدو إلى الأشرفية، عاود الشرتوني نقل المتفجرات من منزل خالته إلى منزل جده. وبعد أيام، زوّد العلم الشرتوني بجهاز تفجير لاسلكي وشرح له كيفية استخدامه، كذلك درّبه على كيفية التخلّص منه بعد استعماله عبر تفخيخه. يسرد الحكم أنّ العلم طلب من حبيب تحضير نفسه للقيام بعملية تفجير، فوافق، عارضاً أن تكون العملية ضد القوات الإسرائيلية في الأِشرفية، لكن العلم أقنعه بأن تستهدف عملية التفجير شخص بشير الجميل. واتفقا على وضع المتفجرات والصواعق في المكان الذي يعلو مكان جلوس الجميل داخل القاعة الرئيسية عند ترؤسه اجتماعاً بعد ظهر كل ثلاثاء.

بعد انتخاب بشير رئيساً في 25 آب 1982، اتصل العلم بحبيب الشرتوني على رقم هاتف منزل جده في الأشرفية، طالباً منه تنفيذ عملية التفجير المتفق عليها. وحُدّد موعد التنفيذ ظهر الثلاثاء في 31 آب.

في اليوم المحدد، حضر الجميّل إلى قسم كتائب الأشرفية حيث كانت معالم الزينة قد رُفعت وتجمهر أهالي المنطقة لتحيته، فوقف حبيب الشرتوني على شرفة منزل جده المطلة على ساحة ساسين يراقب. وما إن دخل الجميّل حتى أسرع الشرتوني بالنزول إلى الشارع. استقل سيارة والده وتوجه إلى منزل خالته يولاند، حيث قام بتحضير جهاز الإرسال، لكنه عدل عن التنفيذ خشية سقوط عدد كبير من الضحايا. وفي مساء ذلك اليوم، عندما سأله لماذا لم يُنفّذ التفجير، ردّ بأن الجميّل لم يبقَ طويلاً. في الثلاثاء الذي تلاه، بقي الشرتوني متردّداً في التنفيذ. يسرد الحكم أنه عندما لاحظ العلم تردّد الشرتوني، راح يشدد على أهمية التنفيذ وعلى نتائجه المتمثلة في إحباط المشروع الأميركي للهيمنة على لبنان الذي بدأ بالاجتياح الإسرائيلي واستُكمل بانتخاب الجميّل رئيساً. وأقنعه بأن التنفيذ سيجعل منه بطلاً قومياً، فوعده الشرتوني بأنه سيُنفّذ في 14 أيلول.

في ذلك اليوم، حلق الشرتوني ذقنه في صالون مسعود في الأِشرفية. اتصل بشقيقته ووالده ليضمن أنهما سيكونان خارج المنزل لحظة التنفيذ. التقى بعدد من أصدقائه حيث دعا أحدهم إلى تناول المرطبات في منزل خالته. شرب حبيب زجاجة سفن أب ودخّن سيجارة، ثم أخبر صديقه أنه تعب يودّ الاستلقاء. استلقى الشرتوني نصف ساعة، ثم جلب جهاز التفجير ووضعه قرب السرير، واتصل بشقيقته نوال سعياً لإخراجها من البناء، ودعاها إلى زيارة ابنة عمتها سلوى التي وضعت مولودة، فاعتذرت بسبب إصابتها بالصداع. فأخبرها أنه سيذهب لزيارة ابنة عمته. اعتقدت أنه يريد إبقاء السيارة معه. بعد قليل عاود الاتصال بها، طالباً منها أن تحضر فوراً إلى ساحة ساسين لكونه يشعر بألم حاد في يده اليمنى يمنعه من القيادة، فطلبت منه ترك السيارة على أن تجلبها في المساء، إلا أن الشرتوني ألحّ عليها بنبرة توحي بأن عليها الحضور وأقفل السماعة، لكنها وصلت ولم تجده. حاول حبيب إنقاذ جيرانه، فاتصل بجاره روبير شاهين. عاد إلى منزل خالته لإتمام عملية التفجير. انتظر دقيقتين، فكّر خلالهما بعدد الضحايا الذين سيسقطون إلى جانب الجميّل، بيد أنه حسم تردّده بالضغط على زر التفجير. وما هي إلا ثوان حتى سُمع دويّ انفجار ضخم سقط فيه 23 ضحية.

بعد التفجير، توجه حبيب مع شقيقته إلى بلدته شرتون. أخبرت الأخيرة والديها بما حصل، في حين لزم حبيب الصمت. تناول قرصين من دواء مهدّئ للأعصاب ونام. في اليوم التالي، زار الشرتوني جيرانه الجرحى وقدّم واجب العزاء لعائلات الضحايا. وبعد يومين، دهم عناصر من «القوات اللبنانية» منزل الشرتوني واعتقلوه. وبنتيجة التحقيق، اعترف بعد عدة أيام بما أقدم عليه، ودلّ على المكان الذي خبّأ فيه جهاز التفجير، بعد تفخيخه.
***

تصفيق الحاضرين ترحيباً بالحكم قابلته صيحات خارج المحكمة «لكل خائن حبيب» (مروان طحطح)