– رغم كل مناخ التراجع الذي دخلته الساحة العربية مع هزيمة عام 1967، بقيت هناك نخب قوى عربية صامدة فكرياً أمام الدعوة للتعامل مع احتلال فلسطين كأمر واقع غير قابل للتغيير، والاكتفاء بالمطالبة بالعودة إلى حدود العام 1967 التي نشأت عليها المواقف العربية الرسمية، وتسللت الفكرة بقوة إلى داخل الفصائل الفلسطينية مع الدعوة لقيام دولة فلسطينية على الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية، حتى تكرّست برنامجاً رسمياً لمنظمة التحرير الفلسطينية، وصولاً الى اتفاق أوسلو وإلغاء مشروع تحرير فلسطين من ميثاق المنظمة، وأصبح النظر لأصحاب شعار صراع الوجود لا صراع الحدود، بصفتهم من أهل الكهف الذين يعيشون في زمان آخر، يتحدّثون بلغة خشبية، حتى جاء زمن المقاومة، التي اكتسبت أولاً الاحترام لصدق التزامها بقتال الاحتلال، ثم الانبهار بحجم الصفعات المتقنة التي نجحت بتوجيهها لما سَمّي بالجيش الذي لا يُقهر، الذي هزم كل جيوش العرب في ستة أيام، وصولاً للتحرير عام 2000 وليس انتهاء بحرب تموز 2006، والنجاح بمنع جيش الاحتلال من اجتياز شبر واحد من الأرض اللبنانية، ومواصلة تهديد عمقه بالصواريخ رغم كل الدمار الذي نجح بإلحاقه بالسكان والبنى المدنية على مساحة لبنان.
– هذا الزمن هو زمن عماد مغنية، وجوهر معادلته، أن شباب العرب، ومنهم شباب لبنان، يصنعون قانونهم للحرب، وجنرالاتها، وجيشها، وأن جيش كيان الاحتلال بكل جبروته ومزاعم تفوّقه التقني هو جيش قابل للقهر، وأن كيان الاحتلال الذي يدور حول محور هذا الجيش هو أوهن من بيت العنكبوت، لا يستطيع البقاء على قيد الحياة عندما يهزم هذا الجيش، وأن التلازم بين شعار التنازل عن بعض فلسطين وطريق التفاوض معها، بنيوي وعضوي، ونهايته التوسّع الاستيطاني حتى لا يبقى جزء من فلسطين صالحاً لإقامة دولة، ولا جزء من القدس صالحاً لإعلان عاصمة، ومثله التلازم بين خيار المقاومة والتمسك بكامل فلسطين، وطريقه إنهاك الكيان وتمزيق أمن المستوطنين، وإسقاط شعوره بالتفوّق والأمان، وصولاً لجعل الهجرة المعاكسة طريقاً حتمياً للمستوطنين، وما دامت المقاومة هي بالأصل حركة أهل الأرض الأصليين، الذين لن ينزحوا من أرضهم ولن يبرحوا، فخاتمة هذا الصراع محسومة وهي زوال الكيان.
ليس مهماً النقاش الآن بمدى الصواب الورقي لنظرية الدولة الفلسطينية، وقد باتت استحالتها ثابتة عملياً، فليس هناك مشروع على الطاولة لإقامتها، أو التفاوض حولها، والراعي الدولي للمشروع هو الأميركي يعلن أن لا نية لإطلاق أي ديناميكية سياسية راهناً بهذا الاتجاه، وأن التمسك بحل الدولتين هو تمسك ورقي فقط، بينما عملياً تنمو المستوطنات وتبتلع الجغرافيا الفلسطينية ويتواصل التهويد ويستحوذ على الديمغرافيا المقدسية، وها هم عرب الخليج الذين قالوا في قمة بيروت عام 2002 انهم ورقة القوة التي تفرض قيام الدولة الفلسطينية بصفتهم أصحاب المال بمقايضة محورها التطبيع الكامل مقابل السلام الكامل، يتسابقون نحو التطبيع ما فوق الكامل دون سلام ما تحت الكامل، والحكومة الإسرائيلية التي أنتجتها الانتخابات الأخيرة تتحدث عن أرض تاريخية لـ “إسرائيل”، تضمّ الضفة الغربية والقدس الشرقية والجولان وغور الأردن، فلا يجد الفلسطينيون أمامهم إلا المقاومة، ولا يجدون أنفسهم معنيين بالتحدث عن نهاية الصراع والتعهد بأن هدفه إقامة دولة فلسطينية على جزء من فلسطين.
ليس مهماً بالمقابل النقاش الدفتري لمشروع تحرير كامل فلسطين، وإنهاء الكيان وتفكيكه، فالمهم هو أن النقاش حول مأزق الوجود للكيان بات من أساسيات النقاش داخل الكيان نفسه، والتحدّث بين قادته عن الخشية من الزوال بات علنياً، وحجم الشرائح والنخب التي تتحدث داخل التجمع الصهيوني عن عدم ثقتها بقدرة الكيان على البقاء، صارت أوسع من أن يتم تجاهلها، وبالتوازي النقاش بين القوى الفاعلة في ساحة المقاومة حول حرب الوجود لا حرب الحدود أصبح هو الطاغي وتراجع الحضور الفكري والثقافي للقوى التي حكمت الثقافة العربية بعد هزيمة العام 1967، والتدقيق والأمانة يقتضيان تسجيل حقيقة قوامها أن هذا التحوّل مدين لجيل من المقاومين يشكل عماد مغنية رمزهم الأبرز.
في ذكرى شهادة العماد أهم الكلام هو ما قاله ايهودا باراك الذي كان الركن الموازي في جيش الاحتلال للمكانة التي مثلها عماد مغنية في جيش المقاومة، وباراك يقول في مقال له بصحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية “على مرّ التاريخ اليهودي لم تعمّر لليهود دولة أكثر من 80 سنة إلا في فترتين: فترة الملك داود وفترة الحشمونائيم، وكلتا الفترتين كانت بداية تفككها في العقد الثامن”. وأضاف قائلًا إن تجربة الدولة العبرية الصهيونية الحالية هي التجربة الثالثة وهي الآن في عقدها الثامن، وإنه يخشى أن تنزل بها لعنة العقد الثامن كما نزلت بسابقتيها.