Beirut weather 17.41 ° C
تاريخ النشر July 5, 2018
A A A
علي قانصو… والعلامة فضل الله
الكاتب: روزانا رمّال - البناء

على أعتاب إحياء ذكرى استشهاد الزعيم المؤسس انطون سعاده، ذلك الذي نسج استثنائياً خيوط أمل الخلاص من الطائفيين قبل الطائفية انتظمت رؤاه نظاماً في مؤسسة واحدة حفظت أمانتها، فكان الحزب السوري القومي الاجتماعي امتداداً لفكر هذا المؤسس الفذّ في ذلك الوقت حتى صارت رؤاه منفذاً لكل وقت من دون أن تفلح في أن تتسبّب بعدوى الخلاص من منطق التقسيم والتفتيت الذي يجتاح النفوس قبل العقول.

تهذيب النفوس يعني تطهيرها من ترسبات الماضي التي أكلت من عمر الأحزاب صراعات لا تزال تتجدّد حتى اليوم في أي لحظة تستدعي التحدي السياسي والطائفي وحتى العشائري ليصبح أي سياسي ينادي بالعلمنة ويتّخذ الحكمة سبيلاً في قراءة الإنسان والتعاطي السياسي مع الوطن خارج إطار التعصب عملة نادرة. الأحزاب التي تتعاطى بلا مذهبية هي الأخرى نادرة. هكذا هو الحزب السوري القومي الاجتماعي. هذا ما يجمع على نزاهته من كل طائفية ومذهبية مؤيّدوه ومعارضوه.

رحل الوزير علي قانصو ليخسر معه الحزب السوري القومي الاجتماعي ركناً أساسياً من التنوّر الفكري وعموداً فقرياً ممن ثبتوا لعقود طويلة عقيدة هذا الحزب ونشروا من خلالها ديمومة كبرى لهذه المفاهيم وعزّزوا المواطنية.

أن تخسر الساحة السياسية مثل علي قانصو يعني أن يخسر لبنان سياسياً من تعاطى مع الوطن بتجرّد بدون طائفية، وبكل فخر ترشّح وتناوب على رئاسة حزب مرّ على رئاسته من كل المذاهب والتلاوين الدينية حتى يكاد لا يهتمّ أي حزبي إلى دين أو مذهب رئيسه.

أن تخسر الساحة السياسية علي قانصو يعني أنها خسرت المقاتل حتى آخر نفس والمعارض حتى آخر لحظة والثائر حتى ينقطع النفس ضدّ كل من يستهدف المقاومة. ليست المقاومة بالنسبة إليه حزب الله الشيعي. فهو «القومي» أحد عناصرها، وحزبه الذي قاوم في بيروت وقدّم الاستشهاديين بوجه الاحتلال هو حزبه الذي يقاوم الارهاب ويقاتله في سوريا، كما قاتله في لبنان بمختلف أوجهه في الماضي.

أن تخسر الساحة السياسية علي قانصو يعني أن تخسر السياسي اللبق والقدير الذي يعرف كيف يتخاصم ويرفع الصوت ويقف مرفوع الهامة من دون مسايرة، لا مجاملة في الموقف الوطني، وحتى لا مجال للجدل، لكن الكلام الذي قد ينتهي اليوم ينتهي بكل أسف، بخسارة مضاعفة وسط زحمة المستزلمين واللاهثين وراء وزارات ووراء السفارات والسفراء. فيخسر لبنان العصامي والنظيف الكفّ الذي دخل الوزارة وخرج منها مرفوع الرأس الى مثواه الأخير، حيث أحب.. جنوب لبنان.

شهر تموز الذي رحل فيه العلامة السيد محمد حسين فضل الله رحل معه الكثير من هذا الفكر المتنوّر الذي قدّم لأول مرة رجل دين أقرب الى الإنسان والإنسانية، العلامة الذي وهب فكره وروحه للمقاومة والمقاومين، وفي جلسات دروسه تعلّم الكثيرون ممن أسسوا حزب الله الذي اشتدّ عوده وكبر على مدى السنين ليصبح المقاومة الواسعة الأفق والمدى. السيد فضل الله الذي أبى إلا أن يرفع الإنسان وحقوق المرأة والوطن الى مصاف القداسة في التعاطي لا يزال حاضراً في قلوب كل اللبنانيين، هو الشيعي الملتزم فكرياً ونفسياً بعقيدة دينية واضحة، لكنه استطاع ببراعته وإدراكه العميق لمفهوم المواطنة أن يُحسن صياغة وتقديم انتمائه ليدخل كل القلوب. محمد حسين فضل الله المسلم الشيعي العلماني العلمي الوطني نجح في ظل هذا الخليط فحورب من أقرب الناس، لكنهم اليوم يدركون حاجتهم إلى أمثاله في ظل تشويه الدين الذي أمعن فيه أعداؤه في كل العالم.

نستذكر العلامة الكبير وسط هذا الكم من التعصب السياسي الذي اشتدّ وتورط في عصبياته وانفعالاته وسياساته الصغيرة كثير من رجال الدين، مسلمين ومسيحيين، بينما ترفع او ابتعد السيد فضل الله عن المعارك الصغيرة فقدّم كل نماذج الترفع والقوة والمقدرة على التوازن في كل الظروف وكشف عن أعظم صورة يتركها عالم الدين ليرثها من بعده «الصالحون»، لكنه لم يتهيّب يوماً قول كلمة الحق حتى في وجه طالبيها ولو كانت ضدهم، وبقوا رغم ذلك يتباهون به صديقاً ويتحدّثون عنه كمفكر عصري نادر وصاحب دعوة للحداثة لا يضاهيها في الغرب مثيل له بين رجال الدين وربما رجال الفكر، ففي زمن صعود الفكر الديني نحو التعصب والتطرف أضاء فضل الله شمعة الاعتدال داعياً لترك الدين يتنفس في الهواء الطلق بدلاً من احتجازه في علب الطوائف والقبائل والعصبيات المتوحشة.

شهر تموز شهر «الرفعة» فأرواح ودعت الوطن وارتفعت الى درجات العلى والسمو، يذكّرنا اليوم أكثر من أي وقت مضى بضرورة الانتباه الى أمرين أساسيين. أولهما استذكار رجالات على مستوى الوطن والافتخار بعطاءاتهم، وثانيهما أن تخلد هذه العطاءات وتدرّس بمناهج رفعت قدر الإنسان ومقداره إلى أرفع الدرجات. لبنان الذي يحتاج إلى «تدجين» الطائفيين يحتاج أكثر من أي وقت مضى الى ملهمي الفكر والتنور من اجل النهضة به. لبنان الذي يحتاج الى النهوض من عمق الأزمة والخروج من النفق المظلم الا وهو الفساد يحتاج أولاً الى التخلص من الطائفية… يحتاج إلى التعرف إلى الإنسان!