Beirut weather 20.41 ° C
تاريخ النشر October 24, 2023
A A A
على المسيحيين أن يعودوا مردة!
الكاتب: نورما أبو زيد - بالوسط

منذ نشأته، التصق لبنان الوطن بمسيحييه، الذين هم الجماعة الأكثر تجذّراً ورسوخاً في أرضه. فالتصاقه بهم والتصاقهم به شبيهان بالتصاق الروح بالجسد، وكما أنّه لا روح بلا جسد، ولا جسد بلا روح، لا لبنان بلا مسيحيين، ولا مسيحيين بلا لبنان!
انطلاقاً ممّا تقدّم، لبنان ليس مجرّد وطن بعيون مسيحييه، بل هو وطن بأبعاد تاريخية وحضارية وثقافية ولاهوتية، وقد امتلك مسيحيوه منذ بدايات القرن العشرين فرصةَ تظهير خصوصيته المستمدة من خصوصيتهم، فكان لبنان الرمز الذي يحمل طابع القداسة، وعليه ليس مبالغةً ولا مغالاةً القول إنّه لولاهم لما كان لبنان!
من يتعمّق في تاريخ مسيحيي لبنان، يستنتج أنّ الموارنة هم نفس الجماعة المحاربة التي عُرفت باسم المردة، وهؤلاء المردة هم شعب مشرقي سرياني آرامي محارب، جذوره ضاربة في عمق هذه الأرض منذ 1600 سنة، وأساقفته هم من وسم يوحنا مارون بطريركاً، ورأوا في بطريركيتهم بطريركية أنطاكيا الأصيلة والأصلية، والبطاركة الذين خلفوا يوحنا مارون الذي عُدّ أولاً، لعبوا أدواراً حاسمة في صياغة الكيانية اللبنانية، وعليه تحوّل كلّ بطريرك ماروني من بطريرك أنطاكيا وسائر المشرق إلى بطريرك سياسي لموارنة لبنان، وقد افتخر كلّ البطاركة الموارنة برتبتهم اللبنانية لا الأنطاكية، وتخلّوا طوعاً عن الرتبة الفخرية التي تمتد من أنطاكيا إلى سائر المشرق، وذلك انطلاقاً من قناعة ثابتة لدى الكنيسة ورعيتها في لبنان، تقول إنّ لبنان ولد على صورة مسيحييه ولأجلهم، ولسائر مسيحيي المشرق سماوات تحميهم.

الدولة التي كانت وليدة في العام 1920، طارد الموارنة فرصة استيلادها منذ القرن الخامس. طيلة سني نضالهم، لم يحصدوا إلاّ الاضطهاد، ولكنّهم عاندوا وصمدوا، وعندما أتتهم فرصة “دولة لبنان الكبير” تلقّفوها واستثمروها ورسموا لها مشروعاً حضارياً ـ طليعياً عنوانه “الحرية والحيوية”، فكان لبنان مجد المارونية وفخرها ودرّة هذا الشرق.

الرعيل السياسي الأول، لعب دور المدافع الفكري عن هذا اللبنان الرمز والمشروع الذي كان منارة المنطقة بلا منافس، فيما الرعيل السياسي الثاني لعب دور المدافع العسكري عن هذا اللبنان الرمز والمشروع، وإن خان بعضه التصويب على الهدف بشكل صحيح. فمقولة طريق القدس تمرّ في جونية أربكت المسيحيين بلا شكّ، ولكن سرعان ما تحوّل مشروع الاشتباك المسيحي ـ الفلسطيني دفاعاً عن الأرض، إلى مشروع اشتباك مسيحي ـ مسيحي تنازعاً على الزعامة، وهكذا تسرّب لبنان المشروع من أيدي مسيحييه، ولم يبقَ لهم إلاّ لبنان الرمز.
من يتوغّل في تفاصيل حرب الإخوة، يكتشف أنّ القرار بالحرب المسيحيّة ـ المسيحيّة اتّخذته الصهيونية، فيما المنفذ كان مسيحياً. الحرب التي أرادوها على المسيحيين لإحلال الفلسطينيين في قراهم وأحيائهم ومنازلهم وبيوتهم كبدلٍ عن ضائع في فلسطين، شنّها المسيحيون على أنفسهم. جهّز هنري كيسنجر سفناً مجانية للمسيحيين، رفضوها بدايةً ومن ثمّ اختاروا الرحيل عن لبناننهم على نفقتهم، والسبب: حروب الإخوة. لم يكن كيسنجر ليتخيّل، أنّ السلاح في أيدي المسيحيين أمضى من مخطّطاته وأفعل!
عندما انتهت الحرب، لم يعد لبنان بالنسبة إلى مسيحييه أرض الميعاد الأمينة على طموحاتهم وريادتهم، والتي تحفظ كرامتهم وإيمانهم وخصوصيتهم وحضارتهم ودورهم وتاريخهم وحاضرهم ومستقبلهم. لقد سلبتهم الحرب القيادة، فتراجعت الريادة، وتمحور مشروعهم حول استرجاع السيادة كبدل عن مشروع ضائع، وعندما عادت السيادة، عادوا إلى حروبهم على الزعامة. لم تفرّقهم المشاريع الدولتية، وإنّما فرّقتهم المشاريع الزعاماتية. فأيّ مشروع نريد اليوم ولأيّ لبنان؟ وهل يمتلك قادة المسيحيين الروحيون والزمنيون رؤية صحيحة للبنان بأبعاده التاريخية والثقافية واللاهوتية، كي يمتلكوا بالتالي مشروعاً له؟ وأتراهم يدركون حجم الخطر الوجودي الذي يهدّدهم كي يؤسّسوا لمشروع بحجم هذا الخطر؟ والسؤال الأهم هل لبنان “وطن الرسالة” كما أطلق عليه قداسة البابا يوحنا بولس الثاني إبان زيارته له قبل 26 عاماً؟

لم يعد لبنان وطناً كي يكون “وطن الرسالة” بل بات بقايا وطن، وعلى الفاتيكان المؤتمنة على مسيحيي العالم، أن تضع يدها بيد دوائر كنيستنا المحليّة صاحبة الأدوار التاريخيّة، لتثبيت أقدام المسيحيين في أرضهم، عبر استصدار رجاء جديد. أمّا الدول العربية، فيتوجّب عليها إيجاد حلّ لمسألة النزوح السوري، لاسيّما أنّ بعض هذه الدول تتحمّل مسؤوليّة تشريدهم من أرضهم ودفعهم نحو لبنان، وبالتالي كما أنفقت أموالاً طائلة لتمويل الحرب، عليها أن تدفع أموالاً في السلم لتمويل عودتهم إلى بلادهم.
مخاطر كثيرة تهدّد لبنان لأنّها تضرب جذور الوجود المسيحي، وعلى المسيحيين أن يعوا هذه المخاطر، وأن يعودوا مردة لامتلاك جرأة الطرح وقوة المقاومة، ومن هنا يبدأ الكلام عن أيّ رئيس ماروني نختار لجمهورية لبنان. فهذا الموقع ليس مجرّد موقع سياسي، بل موقع سياسي وروحي وثقافي، وعلينا أن ننتخب “الرئيس المشروع”، على أن يكون عموده الفقري رأي عام عابر للطوائف، وكنيسة أم في روما، وعائلة عربية تحتضنه!
الفقر والنزوح السوري يأكلان وجه لبنان كالبرص، فما عسى يكون حال المسيحيين بلا مشروع؟.