Beirut weather 16.94 ° C
تاريخ النشر December 2, 2025
A A A
عرس شعبي وروحي تعانقت فيه السماء مع الأرض
الكاتب: دوللي بشعلاني - الديار

نَبَضَ قلبُ لبنان من جديد… نبضاً مُحمَّلاً بالرّجاء والسلام والإيمان، في أحد أهمّ الأيام الروحيّة والإنسانيّة إشراقاً في تاريخه الحديث. يومٌ استعاد فيه الوطن المنهك أنفاسه، يومٌ أفاقت فيه الأرواح من ركام الألم، مع استكمال قداسة البابا لاون الرابع عشر زيارته التاريخيّة في يومها الثاني، حاملاً معه رسالة لا تُشبه سواها: رسالة محبّة وشفاء ورجاء، لشعب كاد يُرهق من الأزمات، لكنه ظلّ واقفاً كطائر الفينيق على صخرة الإيمان والعيش المشترك.

كان يوم أمس عرساً حقيقياً، شعبياً وروحياً، عرساً تعانقت فيه السماء مع الأرض، وارتفعت فيه القلوب قبل الأصوات.

ففي اليوم الثاني من الزيارة البابوية، انفتحت نافذة نور فوق لبنان، فالتقت الروحانية بالإنسانية، واجتمعت الدموع بالابتسامات، ووقف الشباب في مقدّمة الحلم بقيامة وطنٍ جريح تعب، لكنه لم ينكسر يوماً.

منذ ساعات الصباح الأولى، ذلك الصباح الذي أعلنته الدولة اللبنانية عطلة وطنية رسمية (يومي الاثنين والثلاثاء) ليكون للجميع نصيب في هذا الحدث، توجّهت الأنظار والقلوب نحو المحطات البابوية، التي سيسجلها اللبنانيون في دفاتر ذاكرتهم الشخصية قبل التاريخ الوطني. صلوات تفوح منها رائحة البخور والقداسة، لقاءات مختومة ببصمة الرحمة، مصافحات تُعيد إلى البشر معنى الأخوّة، وكلمات ستظل تتردّد طويلاً، بعد أن يرحل موكب البابا عن الساحات والكنائس… لا بل عن نبض القلوب.

كان يوم أمس يوماً للصعود الروحي، يوم المصالحة مع الذات ومع الآخر، يوما اختبرت فيه الجماعة الإيمانية عمق معنى الوحدة، في وطن أثقلته الجراح، لكنه ما زال يبحث عن قيامة جديدة.

كان اليوم الذي اجتمع فيه نادراً ما يجتمع: إيمان صافٍ… إنسان مريض مجروح ومتألّم… شباب يفتّش عن نافذة ضوء ليتشبّث بأرضه… وقيادات روحية تسمع صرخة النّاس قبل كلماتهم، وتبحث عن الوحدة والحوار بين الأديان.

خمس محطات

خمس محطات روحية وطنية وشعبية، خطا قداسة البابا لاون خطواته، رغم قساوة الطقس، متنقّلاً بينها ، اتجهت اليها الأنظار ليس فقط من داخل لبنان بل من خارجه، من كل دول العالم التي تابعت محطات هذه الزيارة لحظة بلحظة من خلال النقل المباشر: بدءاً من دير مار مارون – عنايا، حيث صلّى عند ضريح القديس شربل، إلى مزار سيدة لبنان – حريصا ولقاء الأساقفة والكهنة والمكرّسين والعاملين في الرعويات، مروراً بـ السفارة البابوية واجتماع البطاركة الكاثوليك. ثم بعد الظهر إلى ساحة الشهداء التي احتضنت اللقاء المسكوني والحواري بين الأديان مع 16 طائفة، باستثناء الإسماعيلية واليهودية إذ ليس من ممثلين عنهما في لبنان. وختاماً إلى بكركي حيث لقاء الشبيبة، الذي قرّب قداسته من أفكار الشباب اللبناني وهواجسهم، حاملاً رسالة رجاء ووحدة وسلام لكلّ لبنان.

في حضرة القدّيس شربل

على أنغام تراتيل دينية، مثل “من دير عنّايا المشهور شربل ضوّى سراج النور”، و “يا قدّيس ال من عنّا يا شربل صلّي عنا”، و “صلّي عنا يا شربل”، وتحت الشعار الذي اختير لهذه الزيارة “عنّايا تستقبل البابا ومعه بركة السماء”، وصل قداسة البابا عند العاشرة والثلث من صباح أمس الاثنين إلى دير مار مارون في عنّايا، بعد أن شقّ موكبه مساره تحت الأمطار الغزيرة. وكان انتقل عند حاجز الجيش في عنّايا، من سيارته العادية إلى سيارة “البابا موبيلي” الزجاجية، لرؤية الجموع التي احتشدت على الطرقات المؤدية إلى عنّايا من جونية إلى جبيل، حاملين الأعلام اللبنانية والفاتيكانية وأعلام دول أخرى مشاركة في الترحيب، مثل الولايات المتحدة والنمسا وتشيلي، وسوريا والأردن وسواها، كما حملوا المظلات الواقية من المطر الغزير. ولوحظ وجود حمامات بيضاء ترافق سيارة البابا في طريقه إلى عنايا، وبقيت إحداها ملازمة لمقدمة السيارة، ما دفع أحد المنتظرين على الطريق إلى القول إن “حمامة السلام ترافق البابا”، في إشارة رمزية إلى رجاء بسلام يعم لبنان. وسمعت أجراس الكنائس تقرع ترحيباً بزيارة البابا لاون.

وكان المؤمنون بكلّ حرارة وحماس وفرحة قد تجمّعوا أيضاً منذ ساعات الفجر الاولى، من مختلف الأعمار والديانات والجنسيات في باحة الدير، ومن بينهم 50 مدعوّاً من المسيحيين والمسلمين في لبنان والعالم، الذين شفاهم القدّيس شربل من أمراض مستعصية.

 

 

هدية البابا: مصباح برونزي

ولدى وصول قداسته إلى الدير، استقبله الرئيس العام للرهبانية اللبنانية المارونية الأباتي هادي محفوظ، ورئيس الدير الاب ميلاد طربيه، وصافح البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي، الذي كان في انتظاره أيضاً داخل الدير، وعدد من الكهنة والرهبان. ودخل البابا لاون وارتدى برطشيلاً أحمر خُصّص للمناسبة، ثمّ توجّه إلى ضريح القديس شربل، رمز القداسة في الشرق، الذي ارتدى حلّة جديدة تُظهر الضريح بشكل أوضح، وقد فُرشت أمامه الورود البيضاء.

وهناك كان رئيس الجمهورية جوزاف عون واللبنانية الأولى في انتظار قداسته، فصافحهما. ثمّ توجّه وركع على المركع الأبيض الذي صُنع خصّيصاً لقداسته وصلّى بخشوع صلاة صامتة. وكانت جوقة رهبانية رافقتها فرقة موسيقية تنشد “صلّي عنا مار شربل” بالعربية والسريانية.

ثم أضاء قداسته بواسطة شمعة المصباح النذري من أوراق الزيتون، الذي أحضره معه كهدية للدير، وهو عبارة عن مصباح من البرونز المطلي بالفضة، ويعتبر قطعة فنية يدوية فريدة، يتكون من أغصان زيتون متشابكة، تمتد من قاعدة منحوتة لتشكل دعامة تحتوي على الزجاج الأحمر، وشعار البابا ليون الرابع عشر مثبت في وسط القاعدة.

وقد صُنع هذا المصباح على يد كلاوديو وبييرو سافي، صائغي الفضة في روما. وصُنعت كل قطعة وجُمعت يدويا، دون استخدام قوالب مصنعة بكميات كبيرة، ولذلك يُعتبر قطعة فنية فريدة.

البابا في عنّايا: نوكل إلى شفاعة القدِّيس شربل كل ما تحتاج إليه الكنيسة ولبنان والعالم

ثم جلس البابا إلى الكرسي الأبيض الذي صنع خصيصاً لزيارته أيضا”، فتلا الأب هادي كلمة ترحيبية باللغة الفرنسية جاء فيها بأنّ حضور قداسته كخليفة بطرس لمباركة هذا الدير، يُمجّد ذكرى تطويب القديس شربل التي حصلت في القرن الماضي، ويُجدّد النعمة.

وقال البابا “ان الطبيعة التي تحيط بهذا البيت، بيت الصلاة، تشدنا بجمالها الداعي إلى الزهد. أحمدُ الله الذي مكنني من القدوم حاجا إلى قبر القدِّيس شربل. أسلافي، وأفكرُ بصورةٍ خاصة في القدِّيس البابا بولس السادس الذي أعلن شربل طوباوياً وقدِّيسًا، كانوا يتمنون هم أيضًا أن يقوموا بمثل هذا الحجّ”.

وسأل : “ماذا يعلمنا القدِّيس شربل اليوم؟ ما هو إرث هذا الإنسان الذي لم يكتب شيئًا، وعاش مختفيًا عن الأنظار وصامتًا، لكن سمعته انتشرت في كلّ العالم؟”، مضيفا: “ألخص إرثه وأقول ما يأتي: الروحُ القدس صاغه وكونه، لكي يعلم الصلاة لمن كانت حياته بدون الله، ويعلّم الصمت لمن يعيش في الضوضاء، ويعلّم التواضع لمن يسعى للظهور، ويعلّم الفقر لمن يبحث عن الغنى. كلها مواقفُ تسير عكس التيار، ولهذا ننجذب إليه، كما ينجذب السائر في الصحراء إلى الماء العذب النقي”.

ولفت الى ان “القدِّيس شربل يذكرنا، بصورةٍ خاصة، نحن الأساقفة والخدام المرسومين، بمتطلبات دعوتنا الإنجيلية. أما التطابق بين إيمانه وحياته، والذي يتصف بالجذرية والتواضع معًا، فهو رسالة لكلّ المسيحيين، ثم هناك جانب آخر حاسم: لم يتوقف القدِّيس شربل قط عن التشفع لنا أمام الآب السماوي، ينبوع كلّ خيرٍ وكلّ نعمة. ففي حياته على الأرض، كان الكثيرون يأتون إليه لينالوا من الله العزاء والمغفرة والنصيحة. وبعد وفاته، تضاعف ذلك وصار نهراً من الرحمة. ولهذا، يأتي آلاف الحجاج في الثاني والعشرين من كل شهر، من بلدانٍ مختلفة، لقضاء يوم صلاة وتجديد للروح والجسد.

وأكد “أننا نريد اليوم أن نوكل إلى شفاعة القدِّيس شربل كل ما تحتاج إليه الكنيسة ولبنان والعالم. من أجل الكنيسة نطلب المشاركة والوحدة: بدءًا بالعائلات، الكنائس البيتية الصغيرة، ثم الجماعات المؤمنة في الرعايا والأبرشيات، وصولاً إلى الكنيسة الجامعة. مشاركة ووحدة. أما من أجل العالم، فلنطلب السلام. نطلب السلام، بصورةٍ خاصة، من أجل لبنان وكلّ المشرق. ونعلم جيدًا، والقديسون يذكروننا بذلك، أنه لا سلام بدون توبة القلب. لذا، فليساعدنا القدِّيس شربل كي نتوجه إلى الله ونسأله نعمة التوبة لنا جميعًا”.

وختم البابا كلمته بالقول : “أوكل لبنان وشعبه إلى حماية القدِّيس شربل، حتى يسير دائما في نور المسيح. شكرًا لأنه أعطانا القدِّيس شربل! وشكرا لكم، أنتم الذين تحافظون على ذكره. سيروا في نور الله”.

لقاء الأساقفة في حريصا

قبل وصول البابا لاون، امتلأت البازيليك الكبرى بلفيف من المطارنة والرئيسات العامات والرؤساء العامين والكهنة والرهبان والراهبات والمكرّسين والمكرّسات والعلمانيين، وقد أتوا من مختلف المناطق اللبنانية للمشاركة في هذا اللقاء.

وألقى عدد من المكرّسين والمكرّسات شهادة حياة خلال انتظار قدّاسته، عبّروا خلالها عن كيفية تحوّل مسار حياتهم وتكريسه للسيد المسيح. وكانت شهادة للمرنّمة داليا فريفر التي فقدت بصرها ولم يثنها هذا الأمر عن متابعة مسيرتها. فضلاً عن شهادة الإعلامية داليا داغر التي تحدّثت عن مصالحتها مع الله، وكيفية مساعدة جمعيتها “سطوح بيروت” عدد كبير من المرضى بتدخّل من الربّ ومن المطران إيسيان. كما تحدّث الأب إيلي نصر (مرشد السجون في لبنان والشرق الأوسط) عن اهم عمل رعوي يوجد في هذا المقام، مشيراً إلى أنّ كلّ ما يقال في الكنيسة من تعاليم مسيحية يتمثّل في السجون وهو اهم مكان يستطيع فيه الإنسان إيصال كلمة الله إلى المساجين. وهنا تكمن أهمية هذه الرسالة.

ومن عنايا، انتقل البابا بسيارة “البابا موبيلي” الى مزار سيدة لبنان في حريصا، حيث وصل اليها عند الساعة 12 إلا ثلثاً، في ظلّ تحسّن الطقس وسطوع الشمس، على أنغام الفرقة الموسيقية وتراتيل الجوقة. فوقف الجميع ترحيباً، فحيّاهم البابا وباركهم وصافح الواقفين في الصفوف الأمامية وسط عبارات الترحيب به باللغة الإيطالية: “فيفا إيل البابا”، أي “يعيش البابا”. وكان في انتظاره في مقدمة الحضور الرئيس عون وعقيلته اللذان رافقا البابا في محطاته.

واعتلى قداسته المذبح مرتدياً البرطشيل الأحمر فوق لباسه الأبيض، وقد تدلّى صليباً كبيراً على صدره، على أنغام التراتيل وتصفيق الحضور. فقال لهم “السلام معكم” باللغة الفرنسية. وجلس وسط المذبح، وعن يمينه ويساره الأساقفة الكاثوليك الأربعة، وهم البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، كاثوليكوس بطريرك بيت كيليكيا للأرمن الكاثوليك روفائيل بدروس الحادي والعشرين ميناسيان، بطريرك انطاكيا وسائر المشرق للروم الملكيين الكاثوليك يوسف العبسي، بطريرك السريان الكاثوليك اغناطيوس يوسف الثالث يونان. كما جلس السفير البابوي باولو بورجيا إلى جانبهم.

ميناسيان: الآب معنا والكنيسة معنا ولن نكون وحدنا

وتلا البطريرك الأرمني روفائيل ميناسيان كلمة بالإنكليزية جاء فيها: “إنّ زيارتكم هي شعلة حيّة للصلاة والرجاء، التي تنير كل زاوية في وطننا وحيث ترتفع صلواتنا بنغمة واحدة كرائحة بخور تصعد صوب السماء”. وأضاف “نصلّي من أجل السلام والعدالة وإعادة ولادة وطننا لبنان. إن الكنائس الشرقية والغربية تجتمع مع التقاليد، وتتحوّل إلى غِنى علامة نعمة مختلفة. نريد أن نشهد أنّ التعايش ممكن والحب أهمّ من كلّ شيء”.

وبعد تعداد آلام الشعب وفقره قال “في بلد يحتضن 17 طائفة، يبقى علامة حيّة يتحوّل فيها الإيمان إلى جسر فوق الجراح. ونصلّي على غرار التلاميذ في قلب العاصفة “خلّصنا يا ربّ”.

وختم ميناسيان”حضوركم أيها الاب الأقدس يذكّرنا أن الآب معنا والكنيسة معنا، ولن نكون وحدنا”. وتلا الكلمة صلاة من قبل البابا.

شهادات لمكرّسين

وتقدّم 4 مكرّسين ومكرّسات (الكاهن يوحنا، الراهبة ديما من القلبين الأقدسين، لورين من الفيليبين، والأب شربل فيّاض من جماعة المرسلين)، وتلوا شهادات حياة أمام قداسته، عبّروا خلالها عن كيفية اكتشافهم وجه الله ورحمته، في ظل الحروب والنزاعات وفي أحلك اللحظات. ثمّ صافح كلّ منهم عند انتهاء شهادته.

ثم تلا أحد الكهنة إنجيل يسوع المسيح عند الصليب وقوله للتلميذ الحبيب هذه هي أمّك، وللعذراء مريم هذا هو ابنك.

البابا في لقاء حريصا: مدرستنا الأولى هي الصليب ومعلمنا الوحيد هو المسيح

ثم ألقى البابا لاون كلمة قال فيها: “بفرح كبير ألتقي بكم تحت شعار الزيارة: «طوبى لفاعلي السلام» (متى 5: 9). الكنيسة في لبنان، المتنوعة والموحَّدة، مدعوة لتحمل مسؤولية الرجاء كما قال القديس يوحنا بولس الثاني. هنا، حيث تعيشون وتعملون، اصنعوا جوًا أخويًا مبنيًا على الثقة والمغفرة، فالشركة تُبنى بالمحبة والعمل اليومي الصامت.

ان مزار حريصا ومغارة القديس شربل يذكّران بأن الصلاة هي الجسر الخفي الذي يرفعنا ويعطينا القوة أمام تحديات الحياة وضجيج الحروب. والمرساة الموجودة في شعار الزيارة تشير إلى الإيمان الذي يقودنا إلى السماء في أحلك اللحظات. إن أردنا السلام، فلنتمسك بالرجاء ونبذل المحبة بلا حساب.

لقد سمعنا شهادات مؤثرة من الدبابية حيث يعيش المسيحيون والمسلمون واللاجئون بسلام ويعاون بعضهم بعضا حتى تحت القصف، فيتجلى الانتصار العملي للمحبة. وعملة سورية وُجدت بين التبرعات تذكّرنا بأن كل أحد يملك ما يعطيه وما يتلقاه. وكما قال البابا بنديكتس السادس عشر: لنتغلب على الكراهية بالمحبة، على الانتقام بالمغفرة، وعلى الانقسام بالوحدة.

كما تحدثت لورين عن التزامها تجاه المهاجرين، وقصتها مع ليلى تذكّر بهول الحرب وبضرورة ألا يبقى أحد مهجورا أو مرفوضا بل مرحبًا به: «أهلا وسهلا بك في بيتك». كذلك شهادة الأخت ديما التي أبقت المدرسة مفتوحة في وسط العنف، فصارت مكانًا للتعلّم والمحبة وتقاسم الخبز والرجاء”.

واضاف قداسته: ” التربية في لبنان كنز يجب تعزيزه وخصوصا للشباب والمحتاجين، لأن مدرستنا الأولى هي الصليب ومعلمنا الوحيد هو المسيح. وفي وجوه السجناء والمتألمين نرى وجه الله الذي لا يمل من المغفرة.

واليوم، بتسليم الوردة الذهبية لهذا المزار، نتذكر دعوتنا لنشر «رائحة المسيح الطيبة» التي تشبه مائدة لبنان الغنية بتنوعها، حيث الجميع مدعوون ليشاركوا معا. ليكن هذا روحنا اليومية: أن نعيش الوحدة والمحبة ونصنع السلام”.

وردة ذهبية لأمّ النور

ثم قدّم قداسته الهدية التي أحضرها من الفاتيكان لتمثال أم النور الخشبي، الذي أُصعد إلى البازيليك خصيصاً للمناسبة، ووُضع إلى جانب المذبح. وهي عبارة عن وردة ذهبية وضعها أمام التمثال. وتليت صلاة “الأبانا”، وأعطى قداسته البركة الرسولية لجميع الحاضرين.

وجرى تبادل الهدايا التذكارية. وقدم رئيس “جمعية المرسلين اللبنانيين” الموارنة الاب الياس سليمان ورئيس المزار الاب خليل علوان للبابا لاوون، تمثالا من البرونز كناية عن جسر يرمز الى العبور والرابط بين لبنان والكرسي الرسولي، فضلاً عن ايقونة سيدة لبنان.

ثم التقطت الصورة التذكارية للبابا لاون مع البطاركة الكاثوليك الأربعة، وقد انضم اليهم البطاركة الثلاثة الآخرون.

مباركة حجر أساس

ولدى خروج البابا من مزار سيدة لبنان، ومصافحته عددا كبيرا من الكهنة والرهبان والمكرّسين، طلب منه مدير عام محطة “تيلي لوميير” و “نور سات” جاك كلّاسي مباركة حجر الأساس للمدينة الإعلامية للسلام، التي ستُقام على مساحة 17 الف متر مربع بكلفة 50 مليون دولار، فباركه البابا ووعد بالمجيء لتدشينها، ثم قدّم المسابح للحاضرين، وجرى التقاط صورة تذكارية مع فريق العمل.

اللقاء الخاص البطاركة

ثم انتقل قداسته إلى السفارة البابوية لعقد اللقاء الخاص المغلق مع البطاركة الكاثوليك السبعة، الذين شاركوا في لقاء حريصا وفي لقاء الأديان بعد ذلك. وجرى في هذا اللقاء التشاور حول شؤون الكنيسة وشجونها.

اللقاء المسكوني

استكمل البابا لاون محطات زيارته الرسولية إلى المحطة الرابعة، توجّه قداسته من السفارة البابوية إلى ساحة الشهداء. وكان في انتظاره عند الطرقات الحشود المرحّبة التي أملت أن تحمل زيارته التاريخية السلام الحقيقي، الذي يتعطّش له جميع اللبنانيين اليوم. وانتقل المشهد من الإطار الكنسي إلى الساحة الوطنية الجامعة عبر اللقاء المسكوني والحوار بين الأديان، الذي حمل عنوان “في الواحد الكلّ واحد”، وهي عبارة للقديس اغسطينوس.

وفي خيمة زجاجية ضخمة أنشئت أمام تمثال ساحة الشهداء،، وأطلّت على الصليب الذي يرتفع عند قمة كاتدرائية مار جرجس المارونية، وعلى قبّة جامع محمد الأمين، كما على تمثال الشهداء للدلالة على الوحدة بين الأديان في لبنان، دخل البابا لاون وصافح القادة الروحيين وعلا صوت مرحّباً بقداسته “فيفا إيل بابا”.

واعتلى البابا المنصة الدائرية البيضاء التي أضيئت بالانوار البيضاء، ونقش عليها من الجوانب كافة عبارة “سلام” بالعربية والفرنسية والإنكليزية والسريانية. وجلس إلى جانبيه قادة الطوائف اللبنانية وعددهم 16 ممثلين سائر الطوائف، باستثناء الطائفتين اليهودية والإسماعيلية لعدم وجود ممثلين لهما في لبنان. وحضر اللقاء عدد من الشخصيات والكهنة والعلمانيين. أمّا خلفية المنصة فازدادت بشجرة كبيرة في الوسط أحيط بها أغصان للدلالة على أهمية الفروع. وجرى تغيير ألوانها من الأخضر إلى الأزرق خلال اللقاء.

يونان: لبنان كبير برسالته ودوره

استهلّ اللقاء المسكوني بكلمة افتتاحية ألقاها بطريرك السريان الكاثوليك يوسف الثالث يونان، فقال: “كما قال البابا القدّيس يوحنا بولس الثاني، إنّ لبنان ليس مجرّد بلد وإنّما رسالة إلى منطقتنا والعالم أجمع”.

وركّز على أنّ “زيارة البابا لاوون الرابع عشر اليوم من أجل بناء السّلام والاستقرار في المنطقة، ولا سيّما لبنان الصّغير على الخارطة ولكن الكبير برسالته ودوره وفسيفسائه الإسلامي المسيحي”.

ولفت يونان إلى أنّ “زيارتكم تتزامن مع محطّتَين أساسيّتَين في المسيحيّة: الذّكرى الأولى للمجمّع المسكوني الّذي عُقد في نيقيا حيث اجتمعتم بطوائف دينيّة أخرى، كنائسنا تنظّم الاجتماعات المسكونية لتحتفل بالقانون الذي نجتمع تحته جميعنا، أمّا المحطّة الثّانية فهي الدّعوة إلى الحوار ما بين الأديان، هذه الدّعوة الّتي أصدرها المجلس الفاتيكاني”.

صلوات وتراتيل

ورتّل أحد الكهنة عظة الجبل فقال: “فصل شريف من بشارة القديس متى الانجيلي البشير: “طوبى للمسلمين بالروح فإنّ لهم ملكوت السماوات.. طوبى للرحماء فإنهم يرحمون.. طوبى لفاعلي السلام فإنهم أبناء الله يدعون” .

ثم أذّن أحد المشايخ آية من القرآن.

وعزفت الفرقة الموسيقية وانشدت الجوقة الكبيرة التي ضمّت جوقات عديدة من سائر الأديان، وتألفت من 140 طفلاً وطفلة ترتيلة مختلطة مسيحية وإسلامية.

فيديو وثائقي

وجرى عرض ريبورتاج بعنوان “طوبى لفاعلي السلام”، أكّد خلالها عدد من الكهنة والعلمانيين على اهمية التعايش، كونه يشكّل تجربة غنية للعالم أجمع.

وتحدث البطريرك الراعي في التقرير فقال: “نحن في زمن تضميد الجراح وإيجاد الحلول. هذا دورنا كرؤساء روحيين، وينتظره منا شعبنا بل هو حقّه علينا. نخاطبه ببساطة ومن القلب إلى القلب. هذا دورنا وهذه رسالتنا”.

كلمات مقتضبة

ثم تلا عدد من القادة الروحيين وممثلي الذوائف كلمات مقتضبة، عبّروا فيها عن ترحيبهم بزيارة البابا إلى لبنان، في ظل هذه المرحلة الحساسة التي تشهد المتغيرات في لبنان والمنطقة.

يوحنا العاشر: وجه المسيح لن يغيب عن هذا الشرق

في كلمة ترحيبية لبطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس يوحنا العاشر اليازجي قال:”أهلاً بكم في البلد الذي ينمو فيه صديق الرب كأرزه. أهلاً بكم في الشرق الذي احتضن المسيح طفلاً وفيه افترس صليبه. وفي كنيسة أنطاكية حيث سمي التلاميذ مسيحيين. وجودكم هنا بحدّ ذاته هو رسالة نضع أمامكم هذا البلد وهذه الارض، ونثق أننا في صلواتكم كما أنكم في صلواتنا. ان وجه المسيح المتمثل بحضور المسيحيين فيه المتآلف والمحب مع الإسلام المتسامح لن يغيب عن هذا الشرق”.

آرام الأول: تنوّعنا يتجلّى بوحدتنا

وقال كاثوليكوس الأرمن الأرثوذكس لبيت كيليكيا الكاثوليكوس آرام الأولفي كلمته: “لبنان بلد يُظهِر فيه التَّنَوُّع في جميع جوانب حياة أبنائه. إلّا أنّ تنوّعنا يتجلّى بوحدتنا، وحدةٌ تحفظ هذا التنوّع وتثريه، خدمةً للبنان موحّد، وسيّد، ومستقل. إنّ حضوركم بيننا، يا صاحب القداسة، هو تعبير قويّ عن تضامن الكرسي الرسولي مع لبنان، البلد الذي تُشكّل فيه العيشةُ الإسلامية-المسيحية المشتركة أساس الهوية اللبنانية وخصوصيتها، وفرادتها” .

اضاف: “في الواقع، إنّ هذه الوحدة في التنوّع، وروح العيش المشترك، هما ما يجعل من لبنان جسرًا بين الشرق والغرب. فكيف نحافظ على تنوّعنا القويّ، وعلى شرْكتنا الإسلامية– المسيحية الراسخة، بينما نعمّق وحدتنا الوطنية ونجسّدها؟ هذا هو التحدّي الماثل أمام شعب لبنان”.

وختم: “إنّ زيارتكم للبنان، يا صاحب القداسة، هي بالفعل شهادة حيّة على تضامن الفاتيكان الدائم مع هذا الوطن” .

دريان: نؤكد على احترام الديانات الروحية كأساس للعيش المشترك

ألقى المفتي عبد اللطيف دريان كلمة قال فيها: “من دواعي سرورنا استقبال بابا الفاتيكان، الذي يزورنا في بلد التعايش والتعدد المتنوع ومن دون اي تمييز”، لافتاً الى أنه “في لبنان نؤكد دائما على ثوابتنا الوطنية في قممنا الروحية واحترام الديانات الروحية وحقوق الانسان، كأساس للعيش المشترك”.

وأكد على أننا “لا نتدخل في الخصوصيات، ففي بلدنا يحمي دستوره حق الطوائف في ممارسة شرائعها الدينية”، مضيفاً “الاسلام هو المسيرة الايمانية بالله الواحد الأحد”.

أفرام الثاني: المشرق ليس حدوداً إنما نسيج علاقات اجتماعية وذاكرة تُصان

وكان لبطريرك أنطاكية وسائر المشرق والرئيس الأعلى للكنيسة السريانية الأرثوذكسية في العالم، مار إغناطيوس أفرام الثاني كلمة قال فيها: “”ان الكنيسة في لبنان والمنطقة بقيت شاهدة للضمير الإنساني تدعو لاحترام الحرية الدينية واحترام الانسان، فلنرفع معاً صلاتنا لله ليجعل زيارة البابا لاوون الرابع عشر الى لبنان إشراقة جديدة.”

ولفت “الى ان المشرق ليس حدوداً إنما نسيج علاقات اجتماعية وذاكرة تُصان، والعيش المشترك هو حوار حياة يقوم على الاحترام المتبادل وأدركنا في لبنان أن الانسان لا يكتمل إلا بأخيه، وتلاقي الاديان قادر أن يبعث الرجاء في زمن أثقلته الصعاب وليجعل الرب زيارتكم اشراقة جديدة تبدد الخوف وتوقظ الرجاء في النفوس.”

وتوجه افرام الى البابا بالقول: “زيارتكم تاتي في وقت حساس من تاريخ هذه المنطقة، حيث نشهد اضطرابات وتحولات جذرية، نأمل أن تثمر عدلًا وسلامًا لمنطقتنا لم تعرفه من قبل”.

الخطيب: نضع قضيّة لبنان بين أيديكم لعل العالم يساعد بلدنا على الخلاص

بدوره، ألقى نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى العلامة الشيخ علي الخطيب كلمة قال فيها : “يسعدنا في هذا اللقاء أن نرحّب بقداسة البابا في لبنان باسم المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى والطائفة الشيعية، مقدّرين الزيارة لبلدنا ومثمنين مواقفكم في هذه المرحلة الصعبة التي يمر بها بلدنا”.

ولفت الى أننا “نحن نعتبر أنفسنا اخوة في الإيمان ولا نفرق بين ابناء البشر الا بالتقوى”، مؤكداً أن “العلاقة بين المختلفين محكومة بالحوار”، ومضيفاً “التعايش السلمي هو القاعدة الأساسية، وان ما يحصل من حروب مفتعلة لا يعبر عن حقيقة الدين”.

وتابع الخطيب “لسنا هواة حمل سلاح، ونضع قضية لبنان بين ايديكم لعل العالم يساعد بلدنا على الخلاص”، مضيفاً اننا “مؤمنون بضرورة قيام الدولة، لكننا في غيابها اضطررنا للدفاع عن انفسنا في مقاومة الاحتلال الذي غزا ارضنا”.

وأردف “بناء على ما تقدم نضع قضية لبنان بين أيديكم بما تملكون من إمكانات دولية، لعل العالم يساعد بلدنا على الخلاص من أزماته المتراكمة، وفي طليعتها العدوان الإسرائيلي وما خلفه ويخلفه من تبعات على وطننا وشعبنا”.

المنى: الحرب هزيمة للجميع والعنف لا يجلب السلام

وتحدّث شيخ طائفة الموحّدين الدروز المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى سامي المنى تحت عنوان “نلتقي في توحيدنا فنرتقي في وحدتنا”. فقال: إن “الحرب هزيمة للجميع والعنف لا يجلب السلام”.

وأكد أن “نصلّي معاً لخلاص لبنان والمنطقة وأن نطوّق الألم في الأمل ونتمسّك بالشرْكة الوطنية وهي مظلّة عيشنا الواحد المشترك فلبنان يمكن أن يكون النموذج الأرقى للتنوّع في الوحدة”، مضيفا “نحن على يقين بأن وطننا لا يبنى الا على قاعدة ذهبية أخلاقية تقضي بأن تحفاظ كل عائلة روحية على شريكتها في الوطن والعنف لا يجلب السلام ونحن ما كنا سوى دعاة خير ووئام”.

قصّاب: التعددية نعمة

وألقى رئيس المجمع الأعلى للطائفة الإنجيلية في سوريا ولبنان القسّ جوزيف قصاب كلمة جاء فيها “: نأمل أن تكون زيارتك مناسبةً لندعو جميع الطوائف في لبنان إلى Synodality ، أن نسير معاً من أجل لبنان الرسالة، لبنان الذي لا يملك ترف الانقسام، بل يملك فرصة نادرة ليكون شاهداً على أن التعددية نعمة. حللت اهلا في بلد يريد ان يتعلم مجددا كيف يصنع السلام، لا فقط كيف ينجو من الحرب. نصلي معك، ومن اجلك، ومن اجل لبنان الذي تحمله اليوم في صلاتك”.

قدور : نقف إلى جانب كل مبادرة تشجع اللبنانيين على الحوار والتفاهم

والقى رئيس المجلس الإسلامي العلوي الشيخ علي قدور كلمة قال فيها: ” “نرفع إلى قداسته أسمى آيات الترحيب والتقدير لزيارته هذا البلد، الذي يشكّل واحة للحوار وجسراً بين الشرق والغرب، وثورة إنسانية نفخر بها وفضاء رحباً للتلاقي بين أبناء الديانات”.

ولفت الى أننا “نرى في هذه الزيارة دعمًا لكل صوت يدعو إلى اللقاء وتجاوز الانقسامات، ونحن نؤمن أن الإنسان هو القيمة العليا وأن الأوطان، تبنى بالشرْكة لا بالإقصاء. ونعلن وقوفنا إلى جانب كل مبادرة تعزز الاستقرار، وتشجع اللبنانيين على الحوار والتفاهم، وتغليب المصلحة الوطنية العليا على أي مصلحة اخرى”.

البابا في اللقاء المسكوني: لينبع من هذا البلد نهر سلام

وألقى البابا لاون كلمته باللغة الإنكليزية، جاء فيها: “”أيها الإخوة والأخوات، أقف بينكم بامتنان عميق في هذه الأرض المباركة، أرض الأرز التي حملت عبر الأجيال صوت كلمة الله ودعوة الرجاء. إن حضوركم اليوم، مسيحيين ومسلمين ودروز، يشهد على الإيمان العميق بالله الواحد وعلى إمكانية العيش المشترك في احترام ومحبة”.

أضاف: “ان الحوار بين الأديان في الشرق الأوسط ليس خيارا سياسيا، بل دعوة لاهوتية تنبع من الإيمان ومن الجذور الروحية التي تجمعنا. وفي لبنان، حيث تقف الكنائس والمآذن جنبا إلى جنب، ترتفع الصلاة المشتركة طلبا لسلام الله. رغم الألم والحروب والصراعات، يظل لبنان شاهدا حيا على أن الوحدة والمصالحة ممكنتان، وأن الخوف والكراهية لا يملكان الكلمة الأخيرة”.

تابع البابا: الوثيقة المجمعية (في عصرنا) أكدت قبل ستين عاما أن الحوار الحقيقي يقوم على المحبة، ويرفض التمييز والاضطهاد، ويؤمن بكرامة كل إنسان. والإنجيل يقدم مثال المرأة الفينيقية التي تجاوزت الحدود بالإيمان والتواضع، وهو جوهر الحوار الديني: اكتشاف حضور الله الذي يتخطى الانقسامات”.

واكد “ان رمز شجرة الزيتون، كما الأرز، يحمل معنى المصالحة والسلام والصمود والرجاء، وزيتها يشفي الجراح وينير الطريق. وكما تمتد جذور الأشجار عميقًا، ينتشر اللبنانيون في العالم حاملين رسالة التفاهم والسلام، مدعوين إلى مواجهة العنف والرفض والإقصاء”.

وختم: “وفي عيد بشارة مريم الذي يوحّدكم سنويًا، لتكن العذراء سيّدة لبنان بذراعيها المفتوحتين علامة وحدة وحماية، ولينبع من هذا البلد نهر سلام يحمل الرجاء للشرق الأوسط والعالم”.

وأنشدت الجوقة ختاماً ترتيلة “إلهي يا ما أجملك”، و “سلام يا مريم سلام”.

لقاء الشبيبة في بكركي

عند السادسة مساء، وصل البابا لاون إلى بكركي، حيث التقى الشباب اللبناني عن قرب، إذ استقلته سيارة صغيرة مكشوفة بالكامل، وجال في باحة الصرح البطريركي، محيّياً ومبتسماً ومباركاً شباب لبنان، الذي تخطّى عددهم ال 12 الف شخص.

في مشهد مهيب حمل الشباب هواتفهم والتقطوا الصور التذكارية لقداسته، وهو على مقربة أمتار قليلة من رسول السلام والرجاء. خلفية المنصة التي اعتلاها البابا بعد تحية الحضور بدت بسيطة توسطتها بوابة مفتوحة على نور خليفة بطرس، زرعت في أرجائها أشجار الأرز كرمز على صمود لبنان.

بدأ اللقاء بسبعة تقادم تدل على الكنائس الكاثوليكية السبع، عبّرت عمّا مرّ به شباب لبنان من معاناة مثل: يدان كبيرتان مفتوحتان، وحجر الزاوية، وجواز سفر ضخم، ومصباح وملابس الإطفاء والدفاع المدني، وأرزة لبنان والعلم اللبناني، لتختتم بمجسم الطفل يسوع رمز الميلاد الجديد لوطننا المجروح، والأمل والرجاء المتجدّد رغم كل الصعوبات.

الراعي مُرحباً: كلامكم سيكون نوراً وتصويباً للمسار

وألقى البطريرك الراعي كلمة ترحيبية بقداسته باسم مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان قال فيها: “يستقبلكم لبنان على مثال المزامير. في العذوبة يقدّم لكم الدموع التي هي لآلاء الرجاء. الجبال التي تحوّلت إلى معاقل لملّ من يتضرّع ويصلّي”.

واكد “إنّ حضوركم هنا هو نفحة فصح جديد لوطن يبحث أيضاً عن النور”. وشدّد على أنّ شبابنا يتطلّعون الى بناء لبنان الجديد. وختم “نشكر زيارتكم في هذه اللحظة الثمينة التي ستبقى محفورة في ذاكرتنا الجماعية، وشكراً لأنكم نظرتم باتجاهنا بثقة، وكلامكم سيكون بالنسبة لنا نوراً وتصويباً للمسار، ومباركتكم ولادة جديدة نتمناها”.

رقصات تعبيرية

ثم جرت قراءة إنجيل ربنا للقديس يوحنا باللغتين العربية والإنكليزية عن “من يحب المسيح يحفظ كلمته، والسلام استودعكم… سلامي أعطيكم ليس كما يعطيه العالم”. وأنشدت الجوقة ترتيلة “من كان من الله سمع كلام الله”.

ثم جرى عرض مشهدية رمزية على المنصة، عبّر فيها الشباب عن معاناتهم من الأزمات والمصائب لا سيما انفجار 4 آب، وولد منها تضامن كبير، اختتمت برفع كرة مضيئة شاهدها البابا لاون باهتمام.

تكلّم خلالها أنطوني من الجنوب وماريا من الشمال على ما حصل بعد الانفجار من خدمات لرفع الدمار ومساندة الإنسان من خلال العطاء من القلب، نظراً إلى وجود الربّ مع الشباب، وقناعتهم بان النور دائماً أقوى من الظلمة كمتطوعين. فضلاً عن التأكيد على عدم ترك الارض والكنيسة حتى في أحلك الظروف. وهذه الخبرة جعلت الشباب يرون وجه الكنيسة الحقيقية الذي يعطي الأمل والرجاء وبذرة السلام وحب الحياة.

ثم قام عدد من الشباب برقصة تعبيرية حاملين كرات مضيئة مزروعة فيها شجيرات الأرز. فابتسم البابا وصفّق لهم. ثم حمل الراقصون والراقصات الأعلام التي طبع عليها حمامات السلام ولوّحوا بها، ودخل آخرون باللباس الأبيض فأدوا رقصة تعبيرية، على أنغام ترتيلة “يا يسوع يا الهي هبني روحك”.

شهادات عن البقاء والتعايش

واستمع قداسته إلى شهادات حياة من الشاب إيلي الذي رفض الهجرة، رغم خسارته لجنى عمره في المصارف بسبب الأزمة، وشابّة تدعى جويل، والتي استضافت صديقة مسلمة في منزلها مع عائلتها خلال الحرب على الجنوب. ثم تحدّثت والدة صديقتها آسيل المحجبة مشيرة إلى انها اكتشفت معنى الدين الحقيقي خلال هذه التجربة.

وأنشدت الجوقة الضخمة من الشباب والشابات ترتيلة “المسيح قام في الحقيقة قام”. ووقف شاب وشابة وعرضا مشاكل البلد وأزماته وطرحوا عليه سؤالين باللغتين العربية والإنكليزية أجاب عنهما في كلمته.

البابا في لقاء الشبيبة:

كونوا مصدر الأمل

افتتح البابا كلمته بعبارة “السلام لكم”، فعلا التصفيق الحار. وتوجه لشبيبة لبنان في بكركي بالقول: “”المستقبل بين أيديكم ولديكم فرصة تاريخيّة لتغيير المستقبل والحبّ قادر على معالجة جروح الجميع ومباركون من يحملون السلام ويصنعونه وهؤلاء هم أبناء الله”.

ولفت إلى ان “تاريخ لبنان مليء بالإنجازات والتميز، لكن فيه أيضا جروح عميقة يصعب معالجتها، ولبنان سيزدهر مجدداً بشكل جميل وشامخ كالأرزة، ونجد الكثير من الميزات في المجتمع اللبناني نتيجة العمل الشجاع والدؤوب للكثيرين ممّن يشبهون جذور الأرزة المترسخة في الأرض”.

وشدد على انه “لا سلام من دون عدالة ولا عدالة من دون تسامح ، وأجمل صورة لوجود الله بيننا هو الحب والمساعدة”. وقال: “كونوا مصدر الأمل الذي تنتظره هذه البلاد، ويسوع مات وقام من أجل خلاصنا جميعاً، وهو دليل الصفح الذي ينجينا من كل شرير ومنه نتعلم السلام”.

وتابع “سألتموني أين تجدون النقطة الحقيقية للثبات من أجل السلام: لا تتوقف عند فكرة أو تناقض أو مبدأ، المبدأ الحقيقي هو الرجاء، هو المسيح ، وهو مات وقام من أجل خلاصنا، هو الحي، وهو اساس ثقتنا، وهو الشاهد للرحمة التي تشفي العالم من كل شر كما يقول القديش أغسطينوس، قد يبدو الله صامتاً في زحمة الحياة، لكن كونوا مواظبين على الصلاة دائماً كالقديس شربل وشاركوا بالقداديس”.

وعد الشبيبة

بعد ذلك، سأل البابا الشبيبة إذا كانوا مستعدين أن يكونوا “شبيبة صانعي السلام”، فرفعوا أيديهم واعدين بذلك، وبأن يكونوا بناة محبة أيضاً. ثم أعطاهم بركته الرسولية باسم الآب والابن والروح القدس، شاكراً اياهم جميعاً.

وجرى تقديم هدية تذكارية لقداسته من قبل شبيبة لبنان، هي عبارة عن أيقونة للمسيح ينبوع السلام، عربون محبة والتزام يوعدهم.

وحيّا البابا الجميع، على أنغام ترتيلة “Mon Dieu tu es grand tu es beau”، مختتماً يومه الثاني الطويل في لبنان.

ودخل إلى الصرح البطريركي، تاركاً وراءه فرحة عارمة في قلوب جميع اللبنانيين أملوا ألا تنتهي.